هل صار السماح بالغش عملا إنسانيا؟؟؟ ذ.محمد بوقنطار

أرسل الله الرسل وأنزل الكتب عليهم، لإقامة الحجة على معشر المكلفين، وبقيت مهمة الرسول ومعه الكتاب المنزل هي فتح جبهة مجاهدة على وفق الأمر بالاستقامة، واقتحام عقبة مراد هزيمة المألوفات والعوائد التي درج الناس على تبنيها وتناقلها بتواتر متصل الإحالة من الجد إلى الأب فالابن فالنجل فالحفيد وهكذا دواليك.
ولذلك صح الاعتبار الذي يجمل وظيفة الإرسال والتنزيل في المهمة المتسامية والمحاولة البديعة التي يكون دور الرسول فيها ومعه الكتاب المنزل هو الجهاد والرباط الذي يسعى إلى تسمية الأسماء بمسمياتها الحقيقية، فظلم الشرك وشرب الخمر كان سائدا قبل النبوة ومعه قطع الطريق والغصب والنصب والغش والربا والخنا، ولكنه سواد ووجود تحت مسميات لم يكن ليتناولها منطق الحرام والتحريم أو الجزاء والتأثيم، ولعله الأمر نفسه بفلسفة التلازم والتقابل، حيث كان الكرم متفشيا في الأصل العربي، كما صلة الأرحام والأنكحة المتطهرة من رجس السفاح، والبيوع الحائدة عن ظلم الربا والتدليس والتطفيف وهلم جرا من أجناس ما تقتضيه الفطر المحمودة، فكلها أمور جاءت الأديان لتخرجها من ضيق الأعراف والعوائد والمألوفات، إلى واسع ورحابة وصف الطاعة أو قدرة الذنب وضيق المعصية، بضابط تصحيح النيات وتوقيف العبادات فعلا وتركا على وفق منهاج الوحي ومنخلّة الشرع من كتاب وسنة، بضميمة فهم سلف الأمة…
ولا شك أنها رسالة المصلحين من الهداة المهتدين بالكتاب، والاستعصام بمحراب جهاد الأنبياء والمرسلين، وقد لا يشك عاقل أنها رسالة لم تنقطع أنفاسها ولم تنفصم عروة المدافعة عن صميم وظيفتها الدعوية، فالجاهليات مما ألفى عليه الناس آباءهم وذويهم لا تزال تمارس عودها على بدء مسترسل متكرر، وليس المعيب في عودها وتكررها مع تلبسها بحقيقة اسمها، فإن هذا أقرب إلى المعالجة والحل بأضعف الإيمان، ولكنه أخذ عزة بإثم يصر أصحابه مراعاة لمصالح الناس أن يسموا الأسماء بغير حقيقة مسمياتها، بل يعتقدون في هذا التحريف الحائف، والسلوك الزائف أنه عين الصواب وكنه المقاصد وجليل الغايات، من جهة قربه من تحقيق المراد وجبر الخاطر الإنساني، وهو جبر ربما حمل الناس على فت البعر لو نهوا عن فته بدعوى أن المنع قد مس نصبه ولغوبه منفعة من منافع الناس، داخل دائرة الاضطرار كما خارجها، وتلك ولا شك ذريعة من صنفوا الخمر ضمن عقاقير الدواء، وجعلوا أكل لحم الخنزير تطبيبا من ضعف وهزال، وصنفوا التعامل بالربا في دائرة التيسير والتنفيس على الضعفاء والمسارعة في قضاء حوائج الناس، فكان أن أخذوا بنواصي الغش والسماح به رحمة ورأفة بالمطففين والمدلسين والغشاشين، وحبل المسترسلات من جنس سوالف المعطوفات طويل الذيل عريض المنكبين…
ولذلك كان الإخبار من الله جل جلاله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بمنطق وحقيقة الاستغراق الذي مفاده “أن كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون” ولعل من معاني التوبة الإقرار بكون الذنب ذنبا وخطيئة، قبل العزم عن خوض مجاهدة الإقلاع، ولا نرى للأمرين انفكاكا، كما لا نعدم منهما ولهما تلازما وتقابلا، إذ كيف يتوب شارب الخمر من إدمانها وقد تلبست في ذهنه بغير تسميتها، وكيف يقلع الغشاش عن غشه وقد توهم فيه ملحظ إحسان ومحاسن منفعة، وقس على ما ذكر وخرج هنا مخرج المثال لا الحصر أو التحجير على مسترسل المثال وواسع معناه.
ولعلنا ونحن نستدرك من قبل على ظاهرة الغش، مستفهمين في إنكار عن الظن الراجح بكونها أصبحت مطلبا حقوقيا، نكون بعمد أو بغيره قد قصرنا الظاهرة على أضعف وأوهن حلقة في الموضوع، وهي الحلقة التي لها تعلق مباشر بممارسة التلميذ الجانح إلى الغش والمدافع عنه كحق مدني من حقوق عقد تمدرسه، وميثاقه التربوي الغليظ، وإلا فالواقع الذي ليس له دافع يضعنا أمام حقيقة إهمالنا لباقي العناصر المكونة والمؤثثة للصورة السريالية أو الحقوقية والإنسانية لظاهرة الغش.
وهو الإهمال الذي راسلني من أجله ولأجله على الخاص أحد الفضلاء من الأصدقاء بسند عال متصل في غير انقطاع ولا إرسال بأحد أصدقائه، وهو الشخص الذي ساقته الأقدار بترتيب من الله إلى أن يمارس أمانة الحراسة في إحدى القاعات المدرسية التي كانت مسرحا لمباراة انتقاء السادة المفتشين، ناقلا لي كيف شهد فؤاد صديقه ومستوعب جوارحه مأساة جنوح الكثير من الأساتذة أو “مشاريع مفتشين” بأدق تعبير إلى الغش بأساليب متطورة وجرأة متجاسرة، ووجه صلد صفق متعنت في غير حياء ولا جم أدب، وذلك من جهة التماسه للعذر الجارح، كما أفاد السيد الأستاذ ناقلا حواره مع من ضبطه وهو متلبس بالبحث في جواله عبر شبكة غوغل عن نموذج مقالي لنص موضوع الاختبار الانتقائي، يحفظ الود ويبقي على الحظوظ قائمة إلى حين، حيث ركز الأستاذ الغاش أو “مشروع مفتش” على الملمح الإنساني سالكا مسلك الاستعطاف والالتماس الذي تنال به المنازل والحظوات، رائما من خلال منعرجات هذا الحوار البيني القصير ذي الشجون، إفهام صديق صديقي بأن هذا الدواء أو الداء قد أصبح وصار ساريا في عروق الأكثرين من المنتسبين أو الآملين في الانتساب إلى محراب التربية والتعليم…
ولم تكن بطبيعة الحال تلك هي الحالة الوحيدة التي شملها الضبط، ومستها يقظة الإحساس بالأمانة وصدق المراقبة والمشاهدة لصديق صديقي، وإنّما عجّ المكان بحالات أخرى، اختلفت فيها طريقة الغش والتلصص والتجسس بجارحة العين ـ إن سلمت العبارة ـ على حمى الأغيار من الممتحنين، من الذين تبادلوا الأدوار وتعاونوا على الإثم والعدوان، وشهدوا بالصوت والصورة والحركة على استيعاب الفساد وغمر مائه العفن العكر لكل مكونات المنظومة التربوية التعليمية، بدءا بالتلاميذ ومرورا بالكوادر والأطر التربوية والتعليمية والإدارية، ووقوفا طويل التأمل في الاجتهادات والإفرازات الفكرية للوزارة الوصية، وما اندرج تحت حضن وصايتها من مؤسسات وهيئات فاعلة في هذا الخصوص، تخرج علينا بين الفينة والأخرى متأبطة لسيف الإصلاح والمراجعة وإعادة الهيكلة، وقد تكرر هذا الخروج واستمرأ الناس ذلك التأبط، دون أن يلوح في الأفق أمل كنس ومبتغى اجتثاث وإبانة تصيب الداء العضال في مقتل وذهاب بأس…
إن من أسباب فشل المقاربات العلاجية والإصلاحية المترادفة، نجد حقيقة إيغالها وفرط مستمسكها بالمعطى المادي، وما يدور في فلك ومحيط تجلياته، ولم يكن ذلك الإيغال أو الإفراط بالأمر المعيب، لولا إغفال أصحابه بشكل فج وسافر للمعطى الأخلاقي والتربوي، والذي كان ولا يزال قادرا على معالجة السوس من جذور وأصول بدايات انطلاقه وانتشاره، ولا شك أننا اليوم وفي ظل ما شهدته المسميات من تحريف وتنميق، أصبغ على قوالب مبانيها معاني بديعة براقة، تحولت عبر طول أمد إلى أوثان معنوية، كاد بها الشيطان لبني الإنسان، حتى جعله يتعدى مقارفة الذنب، إلى صلف وقبح ومذلة الدفاع والإصرار على ممارسة معهود تسفله ونقيصة سلوكه…
ولا شك أن من فقه الأولويات، جاز له اعتبار الحاجة الملحة لواجب توجيه الجهد وصرف الطاقات والإرادات الإصلاحية، نحو الغاية الرسالية، والمقصد الذي اجتمعت عليه جهود الأنبياء والمرسلين والمجددين والمصلحين، ونعني بهما “الغاية والمقصد” تسمية الأسماء بمسمياتها الحقيقية، ولعلها تسمية تعد نقطة أو قاعدة انطلاق نحو إصلاح تكون فيه الكلمة الأولى والأخيرة لمستحكمات النصوص الشرعية الناهية عن ارتكاب الحرام باعتباره من جهتها هي فقط حراما، بحيث لا يمكن هدر النصوص والضرب بقطعيتها عرض الحائط تحت طائلة اعتبار مصالح الناس الدنيوية ومنافعهم العاجلة والشخصية، وحينها وفي ظل غلبة وتفوق معانيها لن تجد تلميذا أو ممتحنا يعانق الغش ويتلبس بقرينته، بل حتى وإن وجد هذا الممتحن ـ تلميذا أو أستاذا أو متعاقدا ـ مصرا على معصية تلبسه بالغش، فلن تجد بالمقابل حارسا صادقا في حمل أمانة التكليف بمهمة الحراسة والمراقبة يحتمل أن يسمح أو ينحني للفكرة الآخذة بناصية الغش من جهة اعتبار هذا السماح وذلك الانحناء هو عمل إنساني تحكمت فيه راجحات المنفعة والمسارعة في قضاء حوائج الناس… عفوا حوائج الغشاشين والمدلسين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *