“مناقشة علمية للدكتور الخمليشي في مقاله الذي ناقش فيه الدكتور المغراوي” 2/4 ذ. محمد السباعي

نشرت جريدة الاتحاد الاشتراكي يوم الخميس 16 أكتوبر، العدد 8998 مقالا للدكتور أحمد الخمليشي ناقش فيه الدكتور محمد المغراوي حول قضية زواج الصغيرة، وقد وجدت في هذه المناقشة أخطاء علمية فادحة، رأيت أن أرد عليها في حِلَقٍ تأتي تباعا إن شاء الله تعالى، ولكن قبل ذلك أود أن أوضح أن ردي على الدكتور الخمليشي لا يعني أني أشجع على زواج الصغيرات، أو أدعو إليه، وذلك لأني أعتقد أنه لا بد من مراعاة أعراف الناس ما لم يكن في الشريعة ما يحرمها، فهناك أمور دلت الشريعة على إباحتها، إلا أنها منكرة عرفا، ومعدودة في خوارم المروءة، فلا أحب أن يُفهم من ردي على الدكتور الخمليشي أني أدعو إلى مخالفة مدونة الأسرة، وإنما المقصود هو بيان ما وقع فيه الدكتور من هفوات علمية وأخطاء تتنافى مع البحث العلمي النـزيه.

 ذكر الدكتور الخمليشي من قال بعدم صحة زواج الصغير والصغيرة، وذكر سندهم وهو: “استقلال كل فرد بتسيير مصالحه الشخصية والمالية، ولكن بصفة استثنائية في حالة عدم تمتع الفرد بالتمييز والدراية الكافيين لحماية مصالحه من الإضرار بها يسند ذلك التسيير إلى من ينوب عنه، وهذه الصفة الاستثنائية تفرض قصر صلاحيات النائب على إدارة المصالح الآنية للمنوب عنه، والصغير-ذكرا أو أنثى- ليست له مصلحة ولا حاجة آنية في الزواج قبل البلوغ/الرشد، ولذلك يبقى الزواج خارج صلاحيات ولي الصغير أبا كان أو غيره”.
كذا قال الدكتور، لكنه وقع فيما أخذه على الدكتور المغراوي بل في أكبر منه، وذلك أنه أخذ على الدكتور عدم مناقشته وانتقاده للأدلة التي استدل بها الجمهور، وهي أدلة صريحة من الكتاب والسنة الصحيحة، وقد قال بما دل عليه الجم الغفير من علماء الأمة، فلِمَ لم يناقش هو دليل المخالفين هذا، وسلم له من غير انتقاد له ولا تمحيص؟! مع أنه دليل عقلي محض لا يرتقي إلى قوة الأدلة النقلية التي اعتمد عليها الجمهور، كما أنه لم يقل بمقتضاه إلا آحاد من الفقهاء. فأي الأدلة أولى بالمناقشة وتدقيق النظر؟!
هذا بالإضافة إلى أن الدكتور الخمليشي لم يبين للقراء أن العلماء قد أجابوا عن هذا الدليل العقلي، فقد قال السرخسي في المبسوط في باب نكاح الصغير والصغيرة بعد أن ذكر الأدلة على مشروعية زواج الصغيرة من القرءان والسنة والآثار: “ولكن أبا بكر الأصم -رحمه الله تعالى- كان أصما لم يسمع هذه الأحاديث، والمعنى فيه أن النكاح من جملة المصالح وضعا في حق الذكور والإناث جميعا، وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا يتوفر ذلك إلا بين الأكفاء، والكفء لا يتفق في كل وقت، فكانت الحاجة ماسة إلى إثبات الولاية للولي في صغرها، ولأنه لو انتظر بلوغها لفات ذلك الكفء ولا يوجد مثله، ولما كان هذا العقد يعقد للعمر، تتحقق الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد، فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة للحال لإثبات الولاية للولي”. فإذا لم يكن للصغير “مصلحة ولا حاجة آنية في الزواج قبل البلوغ/الرشد” كما قال الدكتور فإن ذلك لا ينفي وجود مصلحة ما تتحقق بالزواج بعد الرشد، وربما تفوت إذا أخر الزواج إلى ما بعد الرشد. كما أنه لا أظنه يخفى على الدكتور الخمليشي أن مصالح الزواج ومقاصده العظيمة لا تنحصر في قضاء الشهوة الحيوانية التي لا يستطيع الصغير والصغيرة استفاءها حال الصغر. ومن الأمور التي تجوز فيها النيابة عن الصغير والصغيرة مع غياب المصلحة الآنية، المتاجرة في مال اليتيم واليتيمة خشية أن تأكله الزكاة والنفقة، فتنمية مالهما -ولو كان كافيا للنفقة عليهما قبل الرشد- مع كونهما لا يتمكنان من التصرف فيه إن لم تكن فيه مصلحة آنية، فإن لهما فيه مصلحة آجلة، وهي الاستفادة منه بعد بلوغ الرشد، ولا أظن الدكتور يقول بعدم جواز تنمية مال اليتيم إذا كان يكفي للنفقة عليه إلى بلوغ الرشد بحجة غياب المصلحة الآنية.
• قوله: “حسب فتوى السيد المغراوي السند هو..”
هنا أيضا وقع الدكتور الخمليشي فيما أخذه على الدكتور المغراوي فاكتفى بالرد على ما ذكره الشيخ من الأدلة، وكان الواجب عليه ما دام قد تحمل مسؤولية التحقيق في هذه المسألة، ورأى من نفسه الأهلية لمناطحة الأئمة الكبار كأمثال الإمام مالك، كان عليه أن يذكر جميع الأدلة التي استدل بها الجمهور، وذلك من باب الإنصاف والموضوعية في البحث، وأن لا يكتفي بقوله: “حسب فتوى السيد المغراوي السند هو..”، خاصة وأنها متوفرة في المصادر التي رجع إليها عند كتابة المقال.
• قوله: “إن القصد الذي يبدو أقرب وأنسب من عبارة «وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ» هو النساء اللاتي لديهن عيوب خلقية أو بيولوجية فلا ينتجن بويضات التلقيح، وبذلك لا تأتيهن العادة الشهرية وإن تجاوزن العشرين أو الثلاثين سنة من عمرهن”.
أولا: هذا القصد الذي يراه أقرب وأنسب مخالف لما أجمع عليه المفسرون والفقهاء من أن الآية تشمل الصغيرات اللاتي لم يحضن إن لم تكن خاصة فيهن كما قال جمهورهم، إلا أن الدكتور الخمليشي ممن لا يقيم وزنا للإجماع فيما يبدو، ويجد من نفسه الأهلية ليخالف علماء الأمة أجمعين أبتعين أكتعين.
ثانيا: الذي يبدو أقرب وأنسب من عبارة «وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ» هو ما ذهب إليه المفسرون وذلك لأمور:
1- أن الله تعالى لم يقل: (واللائي لا يحضن)، وإنما قال: «وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ»، أي لم يحضن بعد، كما قال البيضاوي في تفسيره.
2- أن الله تعالى بعد أن بين في كتابه عدة الحُيَّض من النساء وهو ثلاثة قروء (والقرء هو الحيض أو الطهر على الخلاف المشهور)، كان من المناسب أن يبين تبارك وتعالى عدة النساء الفاقدات لهذه العلامة لكبر سنٍّ أو صغره؛ ولهذا جمع بينهما في آية واحدة، فقال: “وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ” كما بين في الآية نفسها عدة الفاقدات لهذه العلامة بسبب الحمل فقال: “وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ”.
3- أن الحالة التي ذكرها الدكتور وإن كانت تلحق بالكبيرة والصغيرة والحامل بجامع عدم الحيض، إلا أنها حالة مرضية شاذة نادرة، وسياق الآية يدل على أنها تتحدث عما هو منتشر وشائع مثل اليائس والحامل كما يُشعر بذلك قوله تعالى “من نسائكم”.
4- لا يعقل أن يبين القرءان حكم حالة شاذة نادرة ويسكت عن حالة منتشرة شائعة بشهادة الدكتور حين قال: “لكن الفقه الذي نشأ في مجتمع حاضن لظاهرة تزويج الصغار، باعتبارها عرفا مقبولا وتقليدا مرغوبا فيه -ولكي لا يصطدم مع هذا العرف- التجأ إلى التأويل وتفسير كلمة «النكاح» بلفظ »الحلم»”.
• قوله: ” على فرض أن الآية تشمل كذلك المطلقات قبل البلوغ اللائي كن موجودات بالفعل في المجتمع، فإن بيان عدتهن لا يعني تشريع إباحة تزويجهن، فعدد من الأحكام جاءت لتطبق على أوضاع قائمة، ولا يعني ذلك تشريع هذه الأوضاع..”.
هكذا فليكن الفقه! هل خفي على الدكتور الخمليشي أن القرءان لا يسكت على منكر قائم، وأن كل ما يخالف الشرع من أمور الجاهلية قد نهى عنه القرءان والسنة؟!
وهل خفي عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: “كنا نعزل والقرآن ينزل”، زاد إسحاق قال سفيان: “لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن”؟! فمن الأمور المعلومة عند صغار طلبة العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولهذا جعل الأصوليون السنة التقريرية من أقسام السنة النبوية.
فالدكتور الخمليشي لا يقول فقط بأن القرءان يقر ما هو ممنوع شرعا، بل يدعي أيضا أن القرءان يُفصل أحكاما تتعلق بما هو محرم شرعا من غير أن ينهى عنه، ومن ذلك عنده عدة الصغيرة! فيجوز على مذهب الدكتور أن يبين الشرع عدة الزانية مثلا من غير أن يحرم الزنى وينهى عنه نهيا واضحا لا لبس فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *