في ما يسمى باليوم العالمي للغة العربية -18 دجنبر- أحببت أن أتكلم في موضوع مهم جدا بهذه المناسبة، وهو ظاهرة بارزة للعيان تفشت وانتشرت وتمددت وتجاوزت الحد، يقابلها البعض بالاشمئزاز وآخرون باللامبالاة وآخرون بالقبول وآخرون بالفخر والاعتزاز.
وأنا أرى أن هذه الظاهرة والتي هي الرطانة بغير العربية، -وأتحدث عن وضع المغاربة خصوصا مع اللغة الفرنسية خاصة وباقي اللغات عامة بل حتى اللهجات الدولية في بعض الأحيان-، هذه الحالة التي صارت ديدن كثير من الناس اليوم، متفاوتين في درجة تلك الرطانة؛ منهم من تنكر لعربيته مطلقا، ومنهم تغلب الفرنسية على عربيته أو قل لهجته، ومنهم من تقل ومنهم من يزين حديثه ببعض الكلمات فقط.
وأزعم أن هذا أغلبه يحصل لغير ضرورة، وإنما احتقارا للغة الأم أو اللهجة الأصل، أو للتباهي والفخر، والشعور بالتعالي. وهذا في الحقيقة شعور من الفاعل بالدونية والمهانة والذل والهوان إن هو تكلم بلغته أو لهجته، وظنا منه أنه لو رطن باللغة الأجنبية أو بعض كلماتها يكون قد ارتقى وسما وحلق في سماء الحضارة والتقدم.
فنحن مضطرون أن نتحدث مع كل قوم بلغتهم سواء جاءوا إلينا أو ذهبنا إليهم، نكلم الفرنسي بفرنسيته، والإنجليزي بإنجليزيته، والإسباني بإسبانيته، وهلم جرا، بل نكلم المصري بلهجته والخليجي بلهجته والشامي بلهجته… فلم كل هذا التكلف وهذا الهوان؟ !! لم لا يفعل الآخرون مثل ما نفعل؟ !! لم يعتزون بلغتهم وبلهجتهم ولا يتخلصون منها حتى وهم في بلاد الغير بله في بلادهم؟ !!
يقول البعض أن هذا لا عيب فيه، فهو دليل على قدرة المغربي على الحديث بكل اللغات واللهجات، فهل المغربي الوحيد في هذا العالم، أو العرب الوحيدون في هذا العالم هم الذي عندهم هذه القدرات الخارقة؟!! لم لم تظهر لهم قدرات خارقة في مجالات أخرى؟!! ويقول البعض إننا بلد سياحي ونقابل السياح بلغاتهم، فلسنا كلنا نقابل السياح، وليس بلدنا الوحيد الذي يأتي إليه السياح. ولو كان الأمر لذلك لهان.
فقد يقبل الأمر نسبيا لو كان ذلك في مقابل الحديث مع أجناس مختلفة، لكن يحدث ذلك فيما بيننا سواء في الإدارات والعاملين فيها، أو الوافدين عليها، أو بين عموم الناس في فضاءات مختلفة. كما نجد مغربيا أو مغربية هاجر إلى بلد عربي أو أجنبي حتى يعود وقد غير جلد لغته ولهجته وتنكر لماضيه اللغوي واللهجي.
هذا لا يجد إلا تفسيرا واحد في نظري وهو ارتباط هذه الظاهرة بحالة نفسية مرضية يمكن تسميتها بعدم الرضا عن الذات، وهذا المرض النفسي تظهر أعراضه في سلوكات عديدة تجعل الإنسان يعيش الوسواس والشعور بعدم الاهتمام وأنه محتقر فيسعى في رد هذه المشاعر بحسب ما يرتبط به ذلك الشعور سواء في اللغة أو طريقة الكلام أو اللباس أو المكياج أو المركب فيتصنع وضعا بل أوضاعا طلبا للرضا وأنى له ذلك…
أما ما يحصل من المسؤولين وما يحصل من الدولة في تخليها عن العربية في إداراتها ومراسلاتها وإعلاناتها وهلم جرا -إلا ما نذر- فتلك مصيبة عظمى وكارثة بجلاجل لا تؤكد سوى الانهزام والتبعية والهوان، واستمرار سلاسل الاستعمار تلف اللسان والجنان.
وفي هذا الباب ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تعلموا رطانة الأعاجم؛ فإن الرجل إذا تعلمها خب…) أي غش.
وعنه في مصنف ابن أبي شيبة (ما تكلم الرجل الفارسية إلا خَبّ ولا خَبّ رجل إلا نقصت مروءته).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية -التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن- حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه كما تقدم. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 526).
وهذا حالة تورث الرياء ولها تأثير على النفس والشعور والإحساس والفكر، يقول ابن تيمية: واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق. أفلا يقولون أن اللغة حاملة للقيم، ولأجل ذلك سعى أعداء الدين بكل قوة من أجل تغيير اللسان العربي في البلدان المستعمر وصنع نخبة تدين بالولاء للغة المستعمر.
وهذا الباب قد تكلم فيه الأئمة المتبوعون من ذاك الزمان وإن كان اليوم صار مرتبطا بذلٍّ وهوان وشعور بالنقص. قال مالك: لا يُحرم بالعجمية، ولا يدعو بها ولا يحلف بها، وقال: نهى عمر عن رطانة الأعاجم وقال: “إنها خب” فقد استدل بنهي عمر عن الرطانة مطلقا.
وقال الشافعي فيما رواه السلفي قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: “…فلا نحب أن يسمي رجل يعرف العربية تاجرا، إلا تاجرا، ولا ينطق بالعربية فيسمى شيئا بأعجمية، وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب، فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم: ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها؛ لأنه اللسان الأولى بأن يكون مرغوبا فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية”.
وقيل لأحمد: فإن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة، ينظر (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 518-521)
إن تعلم اللغة الأجنبية أمر مرغوب فيه شرعا، لكن التخلي عن اللسان العربي بدون داع ولا ضرورة فهو شر وخنوع وخضوع واستكانة ومذلة وقل ما شئت، فليتنبه الغافلون عن هذه الحقيقة المرة وليتأملوا من حولهم هل يرون أحدا من أهل اللغة الأخرى من يتخلى عن لغته ولو لضرورة في بعض الأحيان رغم معرفتهم ببعض اللغات الأخرى. وإليكم هذه الحقائق:
– فتحت بريطانيا وأمريكا مئات المعاهد حول العالم لتعليم الإنجليزية ونشرها.
– أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية (مجلس الشعب) قرارات ملزمة باستعمال الفرنسية في كل المعاملات، بل ذهبت إلى فرض غرامة مالية على الكاتب الذي يستعمل لفظاً إنجليزياً له مقابل فرنسي!!
– في ألمانيا لا يسمح بإجراء أية دراسات على الأرض الألمانية بغير الألمانية، وأنشأت ألمانيا سلسلة معاهد “جوته” حول العالم لتعليم الألمانية.
– في الكيان الصهيوني يقضي المهاجر إليها ستة أشهر يتعلم العبرية ويأخذ اسماً عبرياً غير اسمه الأصلي، ويتم تعليم جميع العلوم بالعبرية، ولا يتحدث ساسة اليهود في المحافل الدولية إلا بالعبرية!!
إذا اللغة هي جزء من الذات والكيان والهوية وعبق التاريخ ومصدر الفخر والاعتزاز وإثبات الذات واستجلاب الاحترام وفرض الشخصية وقوتها. ويا ليث قومي يعلمون، ذاك الزمان الذي كان الغربي يتباهي بتعلمه للعربية، واليوم نرى إقبالا على تعلم العربية من أجناس مختلفة، لسحر اللغة وجمالها، وسيرها نحو الريادة رغم احتقارها من بعض أهلها. واستغلال تعلمها اقتصاديا وثقافيا من لدن دول تسعى للهيمنة الاقتصادية والثقافية ترى أن في تعلم العربية مدخلا لذلك دون أن يتخلوا عن لغتهم التي بها يتعلمون ويبتكرون ويصنعون ويصدرون، فهي الأصل والباقي تقليد…