الاختلاف الفكري والعقدي “قراءة في حقيقة الاختلاف وآليات تدبيره”(1)   الدكتور محمد الصادقي العماري[1]

كثرت الأقوال والادعاءات المتناقضة حول “حقيقة الاختلاف الإنساني”، فكريا وثقافيا ودينيا وحضاريا..، فمن الناس من قال: إذا كان الاختلاف رحمة، فإن الاتفاق والائتلاف سخط وعذاب، ومنهم من قال: إن الاختلاف كله سخط وعذاب، ومنهم من اتهم المخالف المسلم في دينه، وجعل كل مخالف في الرأي الفقهي أو الفكري خارجا عن الدين، فلم يميز بين دائرة القطعيات، ودائرة الظنيات، دائرة الكفر والإيمان، ودائرة الصواب والخطأ.

ومنهم من تطرف في الفهم، وادعى: أن سبب تخلف وانحطاط المسلمين هو تعدد المذاهب الفقهية، والمدارس الفكرية، واختلاف الاجتهادات داخلها، وهؤلاء: منهم من انهال على المختلفين سبا وطعنا..، ومنهم من دعا إلى ترك هذه المذاهب جملة، وأخذ الأحكام مباشرة من الكتاب والسنة، ومنهم من دعا إلى توحيد المذاهب لتكون مذهبا واحدا، ومنهم من قال نأخذ بمذهب الجمهور ونترك قول غيرهم ..

ومنهم من قال بقتل المخالف واستئصاله، إذا كان مخالفا في الدين والاعتقاد، وأصحاب هذا الرأي لم يميزوا بين المخالف المعتدي، وغير المعتدي، رافضين لكليات القرآن المقاصدية، الداعية إلى التعاون والتعارف مع المخالف، والعدل والقسط معه، إذا لم يكن معتديا، ملتزما بالعهود والمواثيق، ومعاملة المعتدي بالمثل قال تعالى: ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾(التوبة:7).

فهذه الادعاءات، وغيرها، والتي يصعب حصرها، تمثل إشكالا حقيقيا في فهم “حقيقة الاختلاف وآليات تدبيره”، والتي تدل على سوء الفهم، والاستيعاب الصحيح لهذه السنة الإلهية، التي حكم بها الله تعالى على الخلق.

ونحاول في هذه السلسلة من المقالات على “جريدة السبيل”، تقديم رؤية فكرية شرعية لقضية الاختلاف الانساني، الديني والفكري والثقافي والحضاري…، وآليات تدبيره وإدارته بحكمة، محاولين الوقوف على الكليات والأصول العامة للموضوع، بعيدا عن الاستغراق في التفاصيل والجزئيات.

1-الاختلاف إرادة إلهية تكوينية:

اقتضت مشيئة الله تعالى أن تكون الظواهر الطبيعية والكونية، قائمة على التنوع والتباين والاختلاف، اختلاف في الشكل والوظيفة..، من أجل تحقيق التكامل والتوازن والجمال..، وهي مقاصد عظيمة، وأهداف جليلة، وهذا فيه معنى توجيهي للإنسان لفهم حقيقة الاختلاف، وأغراضه، ومقاصده، وتوجيهه نحو القضايا المثمرة للعلم والعمل، ليكون الاختلاف عامل بناء وثراء ونماء.

فإن الثمار رغم اختلافها في الطعم والنوع والشكل، تسقى بماء واحد، كاختلاف بني الإنسان في طباعهم وعقولهم وقدراتهم ومنازعهم الفكرية والعقدية… فإن أصلهم واحد[2]، واختلاف الناس في الألسنة والألوان والشعوب والقبائل، واختلافهم في العقول والميولات النفسية، لا شك يثمر اختلافا فكريا وعقديا وثقافيا..، لأن هذا الأمر واقع بإرادة الله التكوينية القدرية، فإن هذا جعل إلهي، لا دخل فيه للإنسان قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾(هود:118).

فإن الاختلاف سنة تكوينية وإرادة إلهية، سبق القدر بها، حتم على الخلق ما هم عليه من الاختلاف، حسب تعبير الشاطبي[3]، فإنه سبحانه جعل الاختلاف من أصل خلقتهم، لا ينفك عنهم، وقد أكد هذه الحقيقة غير واحد من علماء ومفكري الإسلام يقول الغزالي:”الاختلاف واقع ضرورة، لا أنه أمر به..”[4]، فهذا بيان من الغزالي بأن الاختلاف واقع ضرورة، لا اختيار فيه، واقع بإرادة الله تعالى التكوينية القدرية.

وعليه فإن الاختلاف واقع بإرادة الله التكوينية، فلا حاجة للاشتغال بموضوع رفعه وإزالته من واقع الناس، بل ينبغي الاشتغال بتدبيره وإدارته، لأن ذلك هو المقدور للإنسان، وهو المأمور به شرعا وعقلا، فقد أكد الوحي هذه الحقيقة، كما أرشد إليه العقل بالتأمل والتفكر في اختلاف الظواهر الطبيعية المحيطة بالإنسان.

2- الاختلاف إرادة إلهية تشريعية:

الإرادة الإلهية التشريعية جاءت على وفق الإرادة الإلهية التكوينية، ولم تخالفها، حيث إن الشرع راعى هذا الاختلاف التكويني في الانسان، فخاطبه بما يوافق أزمنتهم ومصالحهم وظروفهم الاجتماعية المختلفة، وعقولهم ومداركهم المتفاوتة، وعلومهم ومعارفهم المتنوعة…

فجاءت الشرائع السماوية مختلفة لاختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والمصالح ..، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (المائدة:48)، ونظرا لأن هذا الاختلاف في الشرائع من أعقد المسائل وأكثرها إثارة للحروب في العالم أرجأ الله تعالى الحكم والفصل فيه إلى يوم القيامة قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(الحج: 17).

كما تنوعت طرق الإقناع وأساليب الدعوة إلى الله قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل:125)، لأن من الناس من لا يقتنع إلا بالحكمة والبراهين القاطعة، ومنهم المعاند الذي يحتاج إلى الجدل والإفحام، ومنهم من يكتفي بخطاب الوعظ والإرشاد، فخاطب الله تعالى الناس بما يوافق قدراتهم العقلية والنفسية.

الشريعة الإسلامية خصت بدعوة الناس جميعا بهذه الطرق الثلاثة، مراعية بذلك الاختلاف التكويني، فعم التصديق بها كل الناس، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصا دون غيره من الأنبياء ببعثته إلى الأحمر والأسود..، لتضمين شريعته كل طرق الدعوة إلى الله[5].

ومما يدل كذلك على أن الاختلاف إرادة تشريعية: الأمر بالاجتهاد واستعمال العقل في الوحي والوجود، قال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ (النساء:83)، وبناء على خطاب الوحي قال علماء أصول الدين وأصول الفقه بوجوب الاجتهاد، وذكروا أن مجال الاجتهاد هو: كل مسألة ليس فيها دليل قطعي الثبوت والدلالة، سواء كانت في مجال العقيدة أو في مجال الفروع الفقهية.

وورود الظنيات والمتشابهات في خطاب الشرع، دليل الإذن في الاجتهاد، والاختلاف الناشئ عنه، لأنه لو شاء سبحانه لأنزل قواطع الأدلة، ومنع الاختلاف، لكنه سبحانه أراد هذا الاختلاف، لأن النصوص تحتمل التأويل، والعقول تتفاوت في الفهم والاستنباط، وحاجات الواقع تختلف، بناء على تحقيق المناط الخاص والعام، وفقه الأولويات، من مكان إلى آخر، ومن زمان لآخر، ومن شخص لآخر…

3- الاختلاف المذموم:

ذم الشرع في سياقات كثيرة متنوعة اختلاف أهل الكتاب والمشركين لأنه اختلاف ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ (البينة:4)، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ (البقرة:213)، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ (الجاثية:17)…، والمستفاد من هذه السياقات هو:

أ- التحذير للمؤمنين من فعل أهل الكتاب والمشركين.

ب- الذم لفعل أهل الكتاب.

ج- أن الاختلاف والافتراق كان بعد البينة الواضحة والعلم القاطع اليقيني، فهو اختلاف من غير مسوغ موضوعي.

وحذر الشرع المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أهل الكتاب والمشركين، الذين فرقوا دينهم، وأمرهم بالاعتصام بحبل الله والاجتماع والألفة، لأن الافتراق والاختلاف في أصول الدين (القطعيات)، هو اختلاف الذين في قلوبهم زيغ[6]، واعتبر الشرع اتباع المتشابهات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ميل عن الصواب، وعلامة زيغ القلوب والعقول.

وفي هذا السياق، وبناء على هذه النصوص الشرعية، اعتبر علماء الأصول والكلام الاختلاف في القطعيات المحكمات، سواء كانت فقهية أو أصولية أو كلامية، مذمومة محرمة، لأن الشرع يذم ويحرم الاختلاف الهادم للإتلاف.

4 – الاختلاف في إطار الجوامع:

الإسلام دين مؤلف وجامع، فإن من معجزات دين الإسلام، أنه وحد وألف القلوب بعد العداوة والصراع والنزاع، الذي كان بين العرب قبل دعوة الإسلام، بل إن الألفة خاصية مميزة لرسالة الإسلام، ودعوة القرآن الكريم دعوة جامعة ومؤلفة، لأنها رسالة عالمية، رسالة جمع وتأليف واستيعاب، لا تعصب ورفض وإكراه، وانغلاق.

دعا القرآن الكريم أهل الكتاب، وأهل الحضارات، والطوائف، والمذاهب، والقوميات..، إلى الكلمة السواء، الكلمة الطيبة الموحدة المؤلفة للمجتمع البشري ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ (آل عمران:64)، فهو خطاب لأهل الكتاب، ولعموم الناس، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومدارسهم الفكرية والفلسفية والثقافية، في هذا العصر، وفي كل العصور إلى يوم الدين.

وأكدت السنة رؤية القرآن الكريم في البحث عن الجوامع والمشتركات، وذلك عند التأسيس للدولة الإسلامية الأولى، رغم اختلاف الشرائع، وذلك في دستورها الأول، الذي نص على وحدة المرجعية الإسلامية للرعية الواحدة، التي يجمعها وطن وإقليم واحد، وجاء في أحد بنودها: “وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد (صلى الله عليه وسلم) .. وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)”[7]، وقبل اليهود ذلك وصادقوا عليه.

كما نصت صحيفة المدينة على أن المسلمين المهاجرين والأنصار أمة واحدة “أمة العقيدة”، والجماعات اليهودية وصفت بأنها أمة واحدة “أمة العقيدة”، ووصف الجميع على أنه أمة واحدة “أمة السياسة” أو “أمة المواطنة”.

وقال تعالى في الجامع الضابط للاختلاف، في الدائرة الصغرى للاختلاف بين أهل الملة الواحدة، ملة الإسلام، وحماية وحدة الجماعة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (النساء:59) في هذه الآية حث للأمة الإسلامية على التمسك بالمرجعية الجامعة، والمتمثلة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة.

الاختلاف في الخطاب القرآني يخدم الائتلاف والاجتماع، ولا يهدمه ويقوض أركانه يقول الشاطبي: “الإسلام يدعوا إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين. وهذه الخاصية قد دل عليها الحديث المتكلم عليه (حديث الافتراق) وهي موجودة في كل فرقة من الفرق المتضمنة في الحديث.. إلا أن الفرقة لا تعتبر على أي وجه كانت، لأنها تختلف بالقوة والضعف”[8].

فهم مفكرو الإسلام، الاختلاف في إطار الجوامع، وترجموه في أقوالهم وممارساتهم الحوارية مع المخالف، واعتبروا الاختلاف في فهم الدين اختلافا مشروعا، لا يهدم كيان الجماعة ووحدتها وألفتها، لأن ذلك يسير مع سنة الله في الخلق، التي اقتضت التباين والتغاير الطبيعي والفكري.
—————————–
[1]– تخصص العقيدة والفكر الاسلامي، مدير مركز تدبير الاختلاف للدراسات والابحاث، المغرب.

[2]– تفسير القرآن(اختصار النكت والعيون للماوردي)، العز بن عبد السلام(ت:660هـ)، تحقيق: الدكتور عبد الله بن إبراهيم الوهبي، دار ابن حزم، بيروت، (1416هـ/1996م)، 2/144.

[3]– الاعتصام، الشاطبي(ت:790هـ)، ضبطه وصححه: أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط/1، (1408ه/1988م)، 1/16-17.

[4]المستصفى من علم الأصول، الغزالي، دراسة وتحقيق: محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط/1، (1417ه/1997م)، 2/274.

[5]– فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ابن رشد(ت:1126ه)، دراسة وتحقيق: محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة، ط/2، بدون تاريخ، ص:31.

[6]– الاعتصام، الشاطبي(ت:790هـ)، ضبطه وصححه: أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط/1، (1408ه/1988م)، 2/428-429.

[7]مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، جمعها: محمد حميد الله، دار النفائس، بيروت، ط/6، (1407ه/1987م)، ص:61-62.

[8]– الاعتصام، الشاطبي، 2/429.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *