مقدمة
بما أننا أمازيغ فإنه يحق لنا تاريخيا وثقافيا واجتماعيا وعرقيا ولسانيا أن نتكلم باسم أنفسنا ولا حاجة لنا بنيابة غيرنا عنا، ولا يحق لأحد مهما علت سلطته أو كثرت ثروته أو توسعت مستعمراته أن يقرر مصيرنا نيابة عنا أو أن يختص بتمثيلنا داخليا أو خارجيا أو أن يَعُمّنا بعَلَمه الذي اقتُرح عليه خدمة لهدف ما!
وبما أن الألسُن في المغرب الأقصى متعددة وليست لسانا واحدا؛ فهناك لسان أهل الريف والمتكلمون به هم (إريفيين) وهم في الشمال، وهناك لسان أهل الأطلس المتوسط (فازاز) والمتكلمون به هم (إمازيغن)، وهناك لسان أهل سوس والمتكلمون به هم (إسوسيين) في منطقة أكادير والنواحي، وقد يطلق على الجميع (إمازيغن)… وبما أن ذلك كذلك فإنه لا نعطي أنفسنا أكثر من حقها فنتكلم نيابة عن الجميع، فالريف له رجاله وسوس له أهله، وإنما سنخص بالذكر أهل الأطلس المتوسط لأننا منهم.
أولا- هل الحركة الثقافية (الأمازيغية) تمثل الأمازيغ؟
ينبغي أن يُعلم ابتداءً أن الحركة الثقافية (الأمازيغية) بأبعادها السياسية والفكرية، لها مؤسسوها ودوافع تأسيسها ومرجعيتعا الأيديولوجية ومصادرها المالية، تختلف تماما عن الأمازيغ بما هم شعب سكن الشمال الإفريقي منذ آلاف السنين لهم عوائدهم وثقافتهم ولسان يخصهم كغيرهم من الأجناس البشرية.
يقول الأستاذ محمد شفيق مبينا العمق الزمني وأصالة هذا الجنس البشري في الشمال الإفريقي: “والنتائج التي أفضت إليها البحوث أن سكان إفريقيا الشمالية الحاليين، في جملتهم لهم صلة وثيقة بالإنسان الذي استقر بهذه الديار منذ ما قبل التاريخ؛ أي منذ ما قُدر ب 9000 سنة”1.
وقد اختلط هذا الجنس البشري بغيره من الأجناس الأخرى كالفنيقيين والإغريق والرومان والوندال والعرب وغيرهم، فشكلوا ما يسمى في العصر الحالي المغاربة (إمغرابيين). وأما بداية تأريخ أحداثهم فإنه يتجاوز 2970 سنة كما يُروج لذلك إعلاميا وشعبيا، إذ “يظهر أن أول قبيلة أمازيغية كبرى احتكت بقدماء المصريين احتكاك حرب (1227 ق.م) كانت تسمى ليبو وكانت مستوطنة لأراضي ليبيا الحالية”2.
بما يعني أن أول حدث احتفظ به التاريخ وتمّ التأريخ له قد مرّ عليه 3247 سنة إلى حدود الساعة، وهذا ما عناه الأستاذ شفيق بعنوان كتابه (ثلاثة وثلاثون قرنا)، وهو يتجاوز التاريخ المروج له إعلاميا بثلاثة قرون.
وإذا كانت بداية الحركة الثقافية (الأمازيغية) -بالمعنى السياسي والإيديولوجي- من منطقة (القبائل) في الجزائر، فإنها تحمل الخصوصية اللسانية والفكرية والثقافية لمنطقة التأسيس، كما تحمل في ذاتها خطط وأهداف المؤسسين والداعمين والممولين لها من غير الأمازيغ! أهداف نجدها تتعارض في أساسها وتفاصيلها مع فكر ومبدإ الإنسان الأمازيغي الحر الذي يرفض أن توظف قضيته لتحقيق غايات وأهداف خسيسة، أقلها إثارةُّ النعرات والسعي وراء تفكيك بنية المجتمع الواحد.
ولمّا عُلم ذلك عندنا وغيره كثير مما ليس من الحكمة الإفصاح عنه الآن، فإننا نحن أمازيغ الأطلس نرفض أن نلعب هذا الدور القذر وأن نُوظَّف من طرف جهة ما كيفما كانت توظيفا سياسيا وأيديولوجيا وعقديا لضرب أمة الإسلام من الداخل مقابل المال، أمة نعتبر أنفسنا جزء وعنصرا أساسيا من عناصرها، جاهد أجدادنا بأموالهم وأنفسهم في سبيل بقائها واستمرارها، بل خدموا علومها بما لم يخدمها غيرهم وتحملوا أمانة تبليغ كتابها وشريعتها لغيرهم من الأجناس البشرية الأخرى في الأندلس وأمريكا وغيرها.
ثانيا- تأسيس الأكاديمية (البربرية/الأمازيغية)
أصدر الاحتلال الفرنسي الظهير البربري (الأمازيغي) يوم 16 ماي 1930 م/17 ذي الحجة 1340هجرية، من أجل تحقيق الفُرقة بين مكونات الشعب المغربي، والذي نص على جعل إدارة المناطق البربرية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية، فيما تبقى المناطق العربية تحت سلطة حكومة المخزن/السلطان المغربي، بحيث تم إنشاء محاكم على أساس العرف والعادة الأمازيغية وإحلال قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات المستند إلى الشريعة الإسلامية، كان ذلك إعمالا حرفيا لقاعدة (فرّق تسد) التي تعتمدها الدول الاستعمارية والحكومات التابعة لها. غير أن الروح الوطنية المغربية -سواء كانت أمازيغية أم عربية- المتشبعة بمبادئ الدفاع عن الروح والدين والوطن، فطنت للخطة الفرنسية الماكرة فعمدت إلى مقاومة هذا الظهير وإفشال الخطة، تمسكا بالوحدة الوطنية والشريعة الإسلامية.
وقد وافق ذلك تنامي الحركات التنصيرية (التبشيرية) في صفوف الأمازيغ، ولذلك قرر الكولونيل المستشرق بول مارتيPaul Marty في كتابه (مغرب الغد Le Maroc de demain) أن المدارس البربرية يجب أن تكون خلايا للسياسة الفرنسية وأدوات للدعاية، بدلا من أن تكون مراكز تربوية بالمعنى الصحيح.
وكان يمكن لكل هذه الخطط الماكرة أن تنجح لو أن المغاربة الأمازيغ فُرض عليهم الإسلام فرضا، أو أنه تمّ نشره بالحيلة والخديعة والترغيب في السلطة، والحقيقة أنهم -أي المغاربة الأمازيغ- قبلوا الإسلام بعدما محصّوه ونظروا في عقائده وأحكامه وشرائعه وسياسته وأخلاقه، وبعدما وقفوا على عدله وعدالة أحكامه وصدق نسبته إلى الله تعالى، فتعلّموه وعلّموه، بل نبغوا في التأليف فيه وكانوا قادة وأسيادا في تبليغه لشعوب الأرض.
أدركت فرنسا المحتلة خلال أواخر ق 19 وبداية ق 20 قوة الرابطة الإيمانية والوحدة العقدية بين الأفراد مهما اختلفت ألسنتهم وأجناسهم وألوانهم، فعمدت إلى انتقاء بعض الأفراد من منطقة (القبائل) الجزائرية لتوظيفها توظيفا سافلا لإتمام المخطط التفريقي، تكون بدايته من القبائل ثم يتمّ تعميمه على باقي شعوب شمال إفريقيا. وذلك ما كان!
ففي سنة 1966 تأسست الأكاديمية البربرية (الجمعية الأمازيغية/أكْراوإمازيغن) من طرف عدد من الكتاب والفنانين كلهم من الجزائر وهم: عبد القادر رحماني، محند أعراب بسعود، يوسف عاشور، محند سعيد حنوز، أولحبيب جعفر، محمد أركون، طاووس عمروش والمؤسس الفعلي/الخفي: جاك بينيتJacques Benet. وإذا نظرنا إلى تاريخ هؤلاء نجد شيئا واحدا يجمعهم هو الولاء لفرنسا والعداء للإسلام؛ فجاك بنيت هو ضابط يهودي/صهيوني يرى في المسلمين العدو الأول الذي يجب القضاء عليه بنصوص التلمود، وطاووس عمروش فنانة نصرانية لا تُطيق سماع الإسلام، ومحمد أركون كتبه تُظهر علاقته بالإسلام ولا يخجل من تبني المرجعية الفكرية والثقافية الفرنسية، ومحند أعراب بسعود يفصل بين الأمازيغية والإسلام ويجعلهم ضدان لا يجتمعان، ومحند سعيد حنوز لا يطيق شريعة الإسلام ويعدها مُحدَثة وغازية لبلاده…الخ.
وفي سنة 1997 كان أول اجتماع دولي أمازيغي، وبعدها تبنى (الكونغرس العالمي الأمازيغي) العَلَم ذا الألوان الثلاثة: الأزرق/الأخضر/الأصفر. هذا العلم وإن كان يبدو في الظاهر أن مصممه هو محند أعراب بسعود غير أن مهندسه الحقيقي هو الضابط اليهودي/الصهيوني جاك بينيت، ومحند نفسه سيُرجع له الفضل في تأسيس الأكاديمية واصفا إياه بالصديق الكبير، إذ ذكر في كتابه (تاريخ الأكاديمية البربرية L’histoire de L’académie berbère) أن من واجب إخوانه البربر أن يذكروا اسمه مقرونا باسم صديقه الكبير جاك بينيت الذي قدم له مساعدة معنوية ومادية، ولولاه لما حققت خطته هذا النجاح. كذا قال!
فما الذي حمل هذا الضابط “بينيت” على تقديم مساعدة مالية ضخمة لمحند أعراب بسعود، أحُبا في الأمازيغية؟ أم وفاءً لصداقتهما؟ أم خدمة لخطة ما؟!
قبل إظهار الجواب عن هذا السؤال نعود إلى بعض النصوص الإثنولوجية الفرنسية التي أسست لفكرة القبائلية في الجزائر لتكون تأطيرا له -أي للجواب-.
يقول الدارسان الفرنسيان M.Fabar وM.Dumas “لا يلتقي العرب والقبائل إلا على محور واحد وهو الكره، فالقبائلي يكره العربي والعربي يكره القبائلي.. لقد كان القبائل قبل مجيء العرب مسيحيين ولم يتقبلوا الإسلام طواعية.. فهم مغلفون من الخارج بالعقيدة والبرنوس، أما بالداخل فيحتفظون بالمضمون القديم”3.
فها أنت ترى أن الأنتروبولوجيا الكولونيالية الفرنسية تهدف إلى تطويع الجزائريين لخدمة المشروع الاستعماري من خلال إثارة النعرات الإثنية /العرقية/اللسانية بين مكونات الشعب الواحد، متنكرة -لأجل تحقيق ذلك- للمصداقية والحقيقة والموضوعية والحيادية وغير ذلك مما يقتضيه البحث العلمي.
هذا الكلام الذي قيل سينقضه من أساسه وسيكشف حقيقته ودوافعه السياسية/الاستعمارية بشكل صريح العالمان الفرنسيان فيليب لوكا Lucas philippe وجان كلود فاتان Jean claudevatin في كتابهما (جزائر الأنتروبولوجيين L’Algérie des Anthropologues)، فقد ذكرا في فصل الاكتشافات les découvertes أنه مع اصطدام الاحتلال الفرنسي بحركات المقاومة الشعبية، أدرك الفرنسيون ضرورة معرفة عوائد وثقافة ولغات هذا الشعب من أجل السيطرة على موارده، فكان استدعاء الأنتروبولوجيا ضروريا لترويضها عسكريا واقتصاديا وفكريا وثقافيا، كانت هذه مهمة الأكاديميين الفرنسيين الكولون لإعادة تشكيل الروابط داخل البلد الواحد. هذا كان في الجزائر.
وأما في المغرب فنجد الكلام نفسه عند المستشرق غود فروي دومومبين Gaude froy Demombynes في كتابه (العمل الفرنسي في التعليم بالمغرب L’œuvre français en matière d’enseignement au Maroc)، يقول إنه “من الخطورة فسح المجال لتكّون كتلة متراصة من الأهالي موحدة في اللغة والمؤسسات، يجب أن نستغل لحسابنا الصيغة التي كان يتبعها المخزن: فرّق تسد. وجود العنصر البربري مفيد كعنصر مواز للعنصر العربي يمكننا استعماله ضد المخزن“4.
وأضاف أن أساس السياسة البربرية تكمن في العزل المصطنع للبربر عن العرب والاجتهاد في تقريبهم منا من خلال التقاليد، كما أنه يجب إبعاد العربية والقرآن عن البربر نهائيا ولا ينبغي أن تكون هناك أية علاقة بين المدرس والفقيه، كما ينبغي أن تصبح الفرنسية عند البربر هي لغة الإدارة والاقتصاد وهي الأداة اللغوية للحضارة الحديثة عندهم!!!
ويقول الماريشال ليوطي Hubert Lyautey في الدورية المشهورة التي بعثها إلى رؤساء المناطق المدنية والعسكرية التابعة للإقامة العامة الفرنسية في المغرب “إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج إطار الإسلام“5، وهذا ما ستسعى إليه -جاهدة- بعد ذلك الحركات الثقافية (الأمازيغية) المدعومة ماديا وسياسيا.
يقول واحد من المتحمسين للسياسة البربرية وهو فيكتور بيكي Victor Piquet في كتابه (الشعب المغربي: الكتلة البربرية Le peuple marocaine: le bloc berbère) “كانت مسألة قانون العادات مسألة أساسية: فالبربر -كما رأينا- عندهم العرف أو (أزرَف) الذي لا يمت بصلة للقرآن، فكان من الطبيعي العمل على تدعيم وجود هذا العرف بينهم والعمل على تتميمه وتنميته بروح بربرية، وفي حال انعدامها فبروح فرنسية! لكن ليس من المرغوب فيه أن ندع القرآن يتجذر ويتأصل. لكن المسألة كانت محرجة بسبب تفوق القانون القرآني أمام الحالة البدائية للقوانين البربرية، يبدو ذلك ظاهرا للعيان.. ولكن جهودنا نحن ينبغي أن تتجه كلها نحو تعليم البربر اللغة الفرنسية دون تدخل أية لغة وسيطة.. إن فرنسا تملك هذه الثروة السعيدة بالمغرب”6.
هذه النصوص الخطيرة تكشف بصراحة متناهية الخطة السياسية للاحتلال الفرنسي التي بدأ الإعداد لها منذ ما قبل (الحماية)، هدفها الأساس هو عزل المغرب الأقصى عن محيطه الإسلامي واقتلاعه من مجاله الحضاري الطبيعي، الذي يعد جزءا منه تاريخيا ودينيا وتراثيا وثقافيا وجنسا بشريا.
ولِمَ كل هذا؟
الجواب: ليسهل توجيهه إلى فرنسا لغويا وثقافيا واجتماعيا ونفسيا، بحيث يصبح هذا المغرب الأقصى مقاطعة تابعة لفرنسا تحفظ مصالحها في الشمال الإفريقي وتكون بوابتها نحو مستعمراتها الأخرى في العمق الإفريقي. وقد تلاحظون الآن أن الخطة المعتمدة في الجزائر هي نفسها المعتمدة في المغرب؛ ذلك أن الهدف واحد وهو إضعاف شعوب شمال الإفريقي من خلال إثارة النعرات الإثنية/العرقية والتعصب القبلي الذي كان قبل مئات السنين. ولم يكن ذلك وليد فكرة ارتجالية وإنما تعلق الأمر بخطة محكمة تم الإعداد لها جيدا بناء على نتائج قدمها العملاء الأكاديميون كما سبق.
ثالثا– علاقة الأمازيغ بالعرب في المغرب الإسلامي
عاش الشعب المكون لبلاد المغرب الإسلامي منذ قرون في انسجام تام مقتنعا بحضارته الإسلامية ولغتها العربية ولسانه الأمازيغي، مفتخرا بانتمائه لأمة الإسلام دون عقدة أو حرج. ولَمّا نقول الشعب الذي سكن المغرب الإسلامي (المغرب الأقصى) فإننا نقصد به الشعب الذي سكن هذه الأرض منذ آلاف السنين، مختلطا بغيره من الأجناس البشرية الأخرى التي وصلت إلى هذه الجغرافيا إما بغرض الاحتلال، كما هو الشأن بالنسبة للفنيقيين والإغريق والرومان والوندال، أو بغرض تبليغ رسالة السماء كما هو الشأن بالنسبة للفتح الإسلامي. وليس غزوا كما يزعم (أمازيغيو) الأكاديمية.
يقول أحمد شفيق في معرض بيان مصادر الثقافة المغربية الأمازيغية “هذه الثقافة التي استعرضتُ عناصرها ومميزاتها مِلك للمغاربة أجمعين، رغم أن كثيرا من المغاربة لا يشعرون بوجودها إلا حدسا وتخمينا، نظرا لكونهم لا يتكلمون الأمازيغية أو لم يعودوا يتكلمونها. وفي المقابل لا يُحتاج إلى برهان في أن يُجزم بأن الثقافة العربية الإسلامية هي أيضا مِلك للمغاربة أجمعين”7.
هؤلاء وهؤلاء اختلطوا إلى درجة يستحيل معها أن نقول: هذا أمازيغي خالص وهذا عربي خالص، ليبقى إذن تعريف الأمازيغي هو ذلك الإنسان القادر على الإفصاح باللسان الأمازيغي (ثمازيغث) استماعا وفهما ونطقا وتعبيرا.
وبمجرد دخول المحتل الفرنسي/الإسباني بدأ التمييز بين المغاربة على أساس لساني/لغوي/عرقي وهو ما لم يكن من ذي قبل، فقد استقر في أذهان القادة الفرنسيين -بناء على تجارب سابقة مع مستعمرات دول أخرى- أن ربح البربر(الأمازيغ) إلى جانبهم والاعتراف بخصوصيتهم يحقق مصلحتها في تفتيت المجتمع وضمان استمرار الاحتلال إلى أقصى ما يمكن، مع علم هؤلاء القادة القاطع ويقينهم الجازم بأن قوة الشعوب المسلمة إنما تكمن في إسلامها وعقيدتها. وأورد هنا نصا خطيرا مقتطفا من مقالة كتبها ضابط الاستعلامات الفرنسية بالمغرب موريس لوجلي Maurice le Glay بعنوان (L’école française et la question berbère) المنشورة في مجلة (نشرة التعليم العمومي بالمغربBulletin de l’enseignement public du Maroc) يقول:
“أما نحن فيجب أن نرى في هذا خطرا مرعبا (يقصد خطر تعلم العربية) قد يقود البربر إلى إسلام تام ونهائي ويؤدي إلى تكون كتلة إسلامية منسجمة لا نظير لها.. ذلك لأن الذي يسلم يظل على إسلامه.. فإذا تعلم المغربي المتبربر اللغة العربية، فلن يكون ذلك على يدنا. إننا لا ندري بكل تأكيد ماذا سيفعل المستقبل بهذه الكتلة المتحمسة النشيطة، ولكن هم قضيتنا العميقة ومشروعنا يفرض أن يتم تطوير سكان الجبال (يقصد البربر) باللغة الفرنسية المعبرة عن فكرنا. سيتعلم السكان البربر الفرنسية إذن، وسوف يُحكمون بالفرنسية“8.
هذا النص الخطير لا يمثل مقالة طائشة تعبر عن رأي صاحبها فقط، وإنما هو نص محكم يعبر عن سياسية استعمارية للدولة الفرنسية تجاه الشعب المغربي، هذه السياسة في بدايتها تقتضي تفتيت الكتلة المنسجمة المكونة للشعب المغربي ثم بعده يتم تحديد مسار لغوي وثقافي وحضاري لكل منها، الأمر الذي سيؤدي لا محالة إلى تعميق الفجوة بين عنصري الكتلة الواحدة. كما أنه سيتم التركيز على العناصر اللغوية والعرقية المختلف فيها لضمان مزيد من الهوة بين عنصري هذه الكتلة، فإذا ازداد توسع هذه الهوة سيؤدي حتما إلى الخصومة ثم النزاع وفي نهاية المطاف إلى الحروب. وهنا ستتدخل فرنسا (لحماية) البربر مقابل فرنَستهم وإخضاعهم لفكرها ولغتها وحكمها. وهنا سنكون أمام احتلال من نوع أخرى أشد وأعنف من الاحتلال العسكري، إنه الاحتلال اللغوي والثقافي والفكري!
إن المغربي الأمازيغي لم يبلغ نبوغه الفكري والعلمي والسياسي والعسكري إلا بعد أن امتزج فكره وروحه وعقله بعقيدة الإسلام وشريعته وأحكامه؛ فممن نبغ في السياسة والقيادة: طارق بن زياد، ويوسف بن تشافين، والمهدي بن تومرت، وممن نبغ في علوم الشريعة: عبد الله بن ياسين، وابن أبي زيد القيرواني، والمكودي، وابن عرفة، وأبي العباس الونشريسي، وممن نبغ في اللغة: الزواوي، وابن برّي، و أبي حيان الغرناطي، وابن آجروم..إلخ.
يدل هذا على أن الأمازيغ ساهموا بحظ وافر في تطوير العلوم وشرحها وتقعيدها وتحقيقها وتبسيطها وتلخيصها، سواء تلك المتصلة مباشرة بالشريعة أو تلك المتصلة بالعلوم والتخصصات الأخرى كالتاريخ والحساب والطب والفلك والجغرافيا وهلمّ جرّا.
بل نجد من التابعين الكبار من رواة الحديث من كان مغربيا أمازيغيا، كعِكرمة راوي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولم يكن الأمر ليصل إلى هذا المستوى من التفوق لو أن الإسلام تم فرضه فرضا على شعوب المغرب الأقصى، خصوصا وأنها قد عُرفت هذه الشعوب منذ القِدم بمقاومتها للاحتلال وبتقلب مزاجها وصعوبة إخضاعها.
فلما كان من هذه الحركة العلمية ما كان، دلَّ ذلك على قبولهم الإسلام بعد تفحصه والنظر في عقائده وأحكامه وتشريعاته، وبعد أن وجدوه أنسب لحياتهم وأحفظ لمصالحهم وأحقق لحريتهم وكرامتهم؛ بل إنهم جعلوا من مسؤولياتهم الكبرى الدفاع عن هذا الدين وتبليغه لغيرهم من الأمم والشعوب الأخرى، فكان أن وصل إلى الأندلس وأمريكا وغيرها..
كل هذا وقد كان المواطن المغربي مغربيا بغض النظر أأمازيغي هو أم عربي؟ لم يكن ذلك مهما مادام الاختلاط قد حصل مع الأمم والشعوب قبل الفتح الإسلامي من تلك التي احتلت المغرب الأقصى جزئيا أو كليا. إذ إنه من غير الممكن أن يحصل احتلال يستمر لعقود دون أن يختلط الجنس البشري الأمازيغي مع غيره، ليستقر الأمر في النهاية على الاختلاط مع الفاتحين الأوائل بأجناسهم المختلفة. هذه القرون من التآخي لم تُثَر فيها نزعة قومية أو دعوى قبلية جاهلية أو تمييز لغوي، إلا بعد أن حل الاحتلال الفرنسي بعتاده العسكري والفكري والثقافي واللغوي والعقدي لنسف وحدة هذا الشعب من أساسها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- محمد شفيق، ثلاثة وثلاثون قرنا من تاريخ الأمازيغيين، ص19
2- نفسه، ص9
3- La grande kabylie p116
4- ص120
5- عبد العلي الودغيري، الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، ص86
6- نفسه، ص142
7- مساهمات في دراسة الثقافة الأمازيغية، ص32
8- الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، ص103