د.عبد الله الشارف*: القول باستحالة تربية النفس وتزكيتها دون الاعتماد على التصوف قول لا ينهض على دليل
هل يمكن اعتبار التصوف شرطا في تربية النفوس وتزكيتها؟
إن قول الصوفية باستحالة الوصول إلى تربية النفس وتزكيتها دون الاعتماد على التصوف، قول لا ينهض على دليل، بل ينفيه ويكذبه واقع وحياة المسلمين على مر العصور. فإذا رجعنا مثلا إلى حياة المسلمين الدينية فيما بين القرنين الأول والسادس، حيث خلو هذه المرحلة من التصوف الطرقي، وجدنا أن هؤلاء المسلمين كانوا يمارسون عبادتهم وحياتهم الدينية بطريقة تلقائية، كل حسب مستوى إيمانه واجتهاده وتقربه إلى الله.
ولم يكن التصوف الذي ظهر في أواخر القرن الثاني للهجرة، مشاعا بين الناس. وإنما اهتم به طائفة من المسلمين ودعوا إليه. فنسبتهم العددية إلى عامة المسلمين ضعيفة جدا، أي أن عددهم لا يذكر إذا قورن بعدد المسلمين.
فهل معنى هذا أن غير الصوفية من المسلمين لم يعملوا على تربية النفس وتزكيتها؟
إن كتب التاريخ والتراجم مليئة بذكر حياة كثير من العباد والزهاد والفقهاء والعلماء من الذين شهد لهم المسلمون بالصلاح والاستقامة والورع، ولم يكونوا صوفية.
وهل تصوف الأئمة الأربعة؛ مالك والشافعي وابن حنبل وأبو حنيفة؟ وهل تصوف تلاميذهم الذين أخذوا عنهم العلم؟ وهل تصوف مئات العلماء والأدباء والأطباء وغيرهم ممن أثروا الثقافة الإسلامية بإنتاجهم العلمي والأدبي؟ فكيف نحكم على هؤلاء بعدم ممارستهم لتزكية النفس لكونهم لم يكونوا من الصوفية؟
أما كون شيخ التربية لازما لمن ذكرناه من السالكين فظاهر، لأن حجب أنفسهم كثيفة جدا، ولا يستقل برفعها وإماطتها إلا الشيخ المربي، وهم بمنزلة من به علل مزمنة، وأدواء معضلة من مرض الأبدان، فإنهم لا محالة يحتاجون إلى طبيب ماهر يعالج عللهم بالأدوية القاهرة.
وأما عدم لزوم الشيخ المربي لمن كان وافر العقل منقاد النفس، فلأن وفور عقله وانقياد نفسه يغنيانه عنه، فيستقيم له من العمل بما يلقيه إليه شيخ التعليم ما لا يستقيم لغيره. وهو واصل بإذن الله تعالى، ولا يخاف عليه ضرر يقع له في طريق السلوك إذا قصده من وجهه، وأتاه من بابه.
لا يسع الباحث الموضوعي إلا أن ينوه بالنزاهة العلمية، والموضوعية التامة لهذا العالم الجليل محمد بن عباد النفزي رحمه الله، حيث لم تمنعه مشيخته الصوفية من ترجيح كفة شيخ التعليم، والانتصار للعلم والفقه، ومنح الأولوية والأسبقية لهما، في حين جعل دائرة شيخ التربية أو شيخ الطريقة ضعيفة جدا، لا تضم إلا “من فيه بلادة ذهن واستعصاء نفس”.
هكذا كان علماء القرون الماضية من أصحاب الذوق الصوفي النقي يفهمون التصوف، ويقيدونه بالشريعة، ويضبطون قواعده بضوابط الكتاب والسنة، حتى تذوب ماهية التصوف في ماهية الإسلام، وتتلاشى علامات التمييز، ويبقى الحق هو ما جاء به القرآن وكلام الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. لكن خلف من بعدهم خلف انحرفوا عن هذا النهج القويم، وجعلوا شيخ التربية أو شيخ الطريقة أولى من شيخ التعليم.
هناك غلاة في الصوفية يصلون في تصوفهم إلى حد عبادة النفس؟!
مما لا شك فيه أن التصوف يعتبر جزءا لا يتجزأ من الفكر الإسلامي قديما وحديثا، كما أنه مر تاريخيا بمراحل ثلاث؛ مرحلة الزهد والتعبد والصفاء، فمرحلة التفلسف، ثم أخيرا مرحلة الطرقية. ولم تخل هاتان المرحلتان الأخيرتان من ظهور بعض الشيوخ الصوفية الذين مزجوا كلامهم وشطحاتهم بأفكار فلسفية.
وقد يطغي الشعور الذاتي عند المتصوف، ويتضخم عنده الإحساس بالأنا الصوفي، فيعكف على نفسه مناجيا ومتأملا إياها. ومن الصوفية من يبلغ برياضته الروحية ومجاهداته، مرتبة الفناء عن العالم والاستغراق في الألوهية ؟ مما جعلهم يقعون فيما يسمونه بالعشق الإلهي، حيث يظنون أنهم قد التصقوا بالذات الإلهية أو حلوا فيها أو اتحدوا بها. بل منهم من أفضى به حاله إلى أن يرى نفسه فقط ولا يرى شيئا غيرها. وفيما يلي، سأقدم بعض النصوص الصوفية الدالة على أن كثيرا من أرباب التصوف كانوا يعبدون أنفسهم وذواتهم وهم يحسبون أنهم يعبدون ربهم:
قال الحسين بن منصور الحلاج الصوفي الحلولي مخاطبا ربه عز وجل:
مزجت روحك بروحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
وقال: أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا.
وقال محيي الدين بن عربي في كتابه “الإسرا إلى مقام الأسرى”، مدعيا أن الله عز وجل يخاطبه
“أنت كيميائي، وأنت سيميائي، أنت إكسير القلوب، وحياض رياض الغيوب، بك تنقلب الأعيان أيها الإنسان، أنت الذي أردت، وأنت الذي اعتقدت : ربك فيك إليك ومبعودك بين عينيك، ومعارفك مردودة عليك، ما عرفت سواك، ولا ناجيت إلا إياك”.
وقال في بعض أشعاره الصوفية:
فلولاه ولـولانــا لما كان الذي كانــا
فإنـا أعبـدٌ حقـا وإن الله مولانــــا
وإنــا عينه فاعلم إذا قلـت إنسانـــا
……
فأعطيناه ما يبــدو بـه فينا وأعطانـــا
فصار الأمر مقسوما بإيـاه وإيــــانـا]
ويقول عمر بن الفارض متحدثا عن الذات الإلهية
ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلـت
………
ولولاي لم يجد وجود ولم يكــن شهود، ولم تعهد عهود بذمـة
فلا حي إلا من حياتي حياتـــه وطوع مرادي كل نفس مريدة
وكل الجهات الست نحوي توجهت بما تم من نسك وحج وعمرة
لها صلـواتي بالمقام، أقيمـــها وأشهــد فيها أنها لي صلت
وقال عبد الكريم الجيلي في الموضوع نفسه
فمهما ترى من معـدن ونباتـه وحيوانه مع إنسه وسجـــاياه
ومهما ترى من أبحر وقفــاره ومن شجر أو شاهق طال أعلاه
ومهما تـرى من هيئة ملكيـة ومن منظر إبليس قد كان معناه
ومهما ترى من عرشه ومحيطه وكرسيه أو رفرف عز مجـلاه
فإني ذاك الكل والكل مشهـدي أنا المتجـلي في حقيقته لا هـو
وإني رب للأنــام وســيد جميع الورى اسم وذاتي مسماه.
لا يخفى على الناقد المتأمل في هذه الأبيات الشعرية الصوفية أن أصحابها قد حصل لديهم ما يمكن أن نعبر عنه بتضخم الأنا الصوفي؛ ذلك الإحساس الذي قذف ببعضهم في الحلول، أو في وحدة الوجود أو الاتحاد، أو في إنكار الذات الإلهية وإثبات الذات الصوفية؛ كما هو واضح وصريح في أشعار عبد الكريم الجيلي.
صدر لكم مؤخرا كتاب بعنوان: “الفكر الصوفي؛ إشكاليات وقضايا”، ما دوافعكم العلمية والفكرية لطرح هذا الموضوع؟
قبل عقد من الزمن صدر لي كتابان في التصوف: أولهما تحت عنوان “تجربتي الصوفية؛ مساهمة في فهم الكيان الصوفي”. وثانيهما يحمل عنوان: “مناظرة صوفية معاصرة”. ثم رجعت إلى الكتابة من جديد في هذا المجال الفكري والسلوكي، فصدر لي في هذا الشهر المبارك، كتاب ثالث في التصوف موسوم ب: “الفكر الصوفي؛ إشكاليات وقضايا”.
ويتناول هذا الكتاب موضوعات صوفية مختلفة؛ منها ما له علاقة بالسياسة والمجتمع مثل؛ “كتاب “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي بين سلطتي المرابطين والموحدين”، أو “موقف السلطان المولى سليمان العلوي من التصوف الطرقي”، أو”علاقة الصوفية الطرقية المعاصرة بأمريكا بهدف تكوين حلف لمواجهة المد السلفي. ومنها ما يرتبط بقضايا شاذة؛ عبادة النفس عند بعض أرباب الصوفية، والنزوع نحو الحلول ووحدة الوجود. ومنها ما هو معرفي مثل؛ “إشكالية العلم اللدني بين محيي الدين ابن عربي الحاتمي ومحمد ابن قيم الجوزية”. ومنها ما هو تربوي سلوكي مثل؛ “شيخ التربية وشيخ العلم والتعليم”، أو “التخويف النفسي عن الحارث المحاسبي”.
كما حرصت على إدراج بعض النصوص الصوفية في ثنايا مباحث الكتاب، قصد تحليلها وربطها بالثقافة والمجتمع؛ أي أن النصوص الصوفية هي بمثابة مرايا تنعكس فيها مشاهد وصور نابعة من الواقع الاجتماعي والثقافي والحضاري.
ومن ناحية الدوافع العلمية والفكرية من وراء تناول موضوع التصوف وإشكالياته وقضاياه، يمكن القول أن التصوف بحر لا ساحل له، كما أنه قديم وجديد في الوقت نفسه؛ إذ أن أثره في البنيات الاجتماعية والثقافية والنفسية واضح ومتجدد، مما يجعل الاهتمام به أمر ضروري ولازم، لا سيما في زمان كزماننا حيث انتشار الأزمات والمشاكل النفسية وهيمنة الفراغ الروحي الناتج عن أزمة القيم وضعف الإيمان الصحيح. وهذا من أسباب إقبال كثير من الناس عليه وممارسته. بيد أن طريق التصوف لا تخلو من انزلاقات وانحرافات لا يتسع المجال للحديث عنها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ جامعي بكلية أصول الدين بتطوان ومتخصص في الفكر الصوفي