عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ» ([1])
”(وتُطَيَّبَ) أي: بطيب الرجَال، وهوَ مَا خفي لونه وظهرَ ريحهُ، فإن اللون رُبما شغل نظرَ المُصَلي، والأولى في تطييب المسَاجِد مَوَاضِع المُصَلين، ومَوَاضِع سُجودهِمْ”([2]).
قال محمود خطاب السبكي: “ويجوز أن يحمل التطييب على التجمير ولهذا قال ابن حجر يُعلم من الحديث أنه يستحب تجمير المسجد بالبخور، خلافا لمالك حيث كرهه، فقد كان عبد الله يجمر المسجد إذا قعد عمر ا على المنبر. واستحب بعض السلف تخليق المسجد بالزعفران والطيب”([3]).
فيستحب تجمير المسجد وتطييبه… قال بدر الدين الزركشي: “يستحب تجمير المسجد بالبخور، وكان عبد الله بن المجمر يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر”([4]).
وعَنِ عبد الله بْنِ عُمَر «أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُجَمِّرُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كُلَّ جُمُعَةٍ»([5]).
قال تعالى: ﴿يَٰبَنِےٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْۖ وَلَا تُسْرِفُوٓاْۖ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ اُ۬لْمُسْرِفِينَۖ ﴾ [الأعراف: 31].
ومن الزينة التي أمر بها القرآن عند كل مسجد؛ التطيب وبخاصة عند اجتماع الناس وفي الجمعة.
قال ابن كثير: “لهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك”([6]).
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ أَوْ تَطَهَّرَ الطُّهُورَ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، وَمَسَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنْ طِيبِ أَوْ دُهْنِ أَهْلِهِ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَلَمْ يَلْغُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى»([7]).
ولهذا كان النبي ﷺ يحب الطِيب وكذلك كان السلف اقتداء به ﷺ، والحرص عليه من الرقي الإنساني والكمال البشري. فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»([8]).
نهي من أكل ثوما أو بصلا من دخول المسجد:
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا – أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا – وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» ([9]).
وفي لفظ لمسلم أنه قال ﷺ» :مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى، مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ«([10]).
وعن عمر بن الخطاب قال: »أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ، هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ، أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا« ([11]).
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأمر النبوي باعتزال المسجد هو عقاب وليس رخصة؛ قال الخطابي: “إنما أمره باعتزال المسجد عقوبة له، وليس هذا من باب الأعذار التي تبيح للمرء التخلف عن الجماعة، كالمطر والريح العاصف ونحوهما من الأمور، وقد رأيت بعض الناس صنف في الأعذار المانعة عن حضور الجماعة باباً ووضع فيها أكل الثوم والبصل وليس هذا من ذلك في شيء والله أعلم”([12]).
ولا يفهم من هذا النهي تحريم أكل التوم أو البصل؛ فقد توهم هذا أصحاب رسول الله ﷺ فرده.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري، قَالَ: لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ الثُّومِ وَالنَّاسُ جِيَاعٌ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الرِّيحَ فَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا، فَلَا يَقْرَبَنَّا فِي الْمَسْجِدِ» فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ، حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذَاكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا»([13]).
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: أَكَلْتُ ثُومًا فَأَتَيْتُ مُصَلَّى ﷺ وَقَدْ سُبِقْتُ بِرَكْعَةٍ، فَلَمَّا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ رِيحَ الثُّومِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلَاتَهُ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّا حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا» أَوْ «رِيحُهُ» فَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَتُعْطِيَنِّي يَدَكَ، قَالَ: فَأَدْخَلْتُ يَدَهُ فِي كُمِّ قَمِيصِي إِلَى صَدْرِي فَإِذَا أَنَا مَعْصُوبُ الصَّدْرِ، قَالَ: «إِنَّ لَكَ عُذْرًا»([14]).
معنى قوله ﷺ: “إن لك عذرًا” ليس فيه رخصة في أكل الثوم، ودخول المسجد بريحه، بل المعنى إنك معذور في أكله، وإن لم يكن حرامًا من دون العذر أيضًا، إلَّا أنه ليس لك دخول المسجد قبل إزالة الرائحة عن فيك([15]).
—————————————————
([1]) رواه أبو داود (455)، والترمذي (594)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (1724):”إسناده صحيح على شرط الشيخين”.
([2]) شرح سنن أبي داود لابن رسلان (3/276).
([3]) المنهل العذب المورود (4/62).
([4]) إعلام الساجد بأحكام المساجد (ص:338).
([5]) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده (190)، وقال الحافظ ابن كثير: “إسناده حسن لا بأس به”[تفسير القرآن العظيم (6/65)].
([6]) تفسير القرآن العظيم (3/405).
([7]) رواه أحمد في مسنده (21539) وصححه الألباني في صحيح الجامع (6064).
([8]) رواه النسائي (3939)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3134).
([9]) رواه البخاري(855)، ومسلم (564).
([14]) رواه أبو داود (3826)، وأحمد (18205)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان (2022).