في ظل كارثة الضعف الذي انتاب أمة الإسلام، ومصيبة الوهن التي أحاطت بكيانها من كل صوب وجهة، يتراشق أبناء الأمة بعدما فرقتهم سبل النحل ومصادر الملل إلى شاك ومدافع ومنتسب ومتبرئ ومقاوم ومتواطئ، يتراشقون حجارة الاتهام، فحينما يشتكي الغيورين عن حمى التاريخ والجغرافيا من صنيعي الأيدي العابثة التي أصاب كيدها خطوط الطول ومدارات العرض تتحرك سخائم العلمانية محذرة مما يطيب لها أن تسميه الهمجية الإسلامية التي تروم العدوان وتريد أن تعاود كرة التوسع المشفوع بسيف “الإرهاب” ودرع الظلامية، هذا التوسع الذي تريد من خلاله “طلائع الشر” “وكتائب الماضوية” أن تهلك حرث الحداثة ونسل العصرنة.
ويتوالى القذف والحذف والخسف والنسف وتشحذ همم الذين تأخذهم العزة بالإثم، وترفع لافتات الضرار، وتترادف النذر بالتوالي والتكرار، وغاية الجميع التصدي لهذا الزاحف الأخضر فإلى الذين يخشون عن حرثهم ويتوجسون خيفة عن نسلهم إلى الذين يفسدون باسم الإصلاح “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ” إلى الذين يبدؤون ناصية سَنَتهم باستمطار غيث الرحيم وطرق باب الكريم فيجمعون لهذا الغرض كل أغبر أشعث مردود عند أبواب ليرافقهم، وينتقون الأكف التي من مناسبة المقام أن ترفع وتنصب رغبة في الماء المنهمر والصيب الغدق فهم لا يجدون حرجا في دعوة شرذمة الماضوية الظلاميين المتزمتين “الإسلامويين”.. فما دامت الحاجة مسيسة فكل الطرق إليها معبدة بالمسك والزعفران.
فاللهم إننا نعلم أن أسلافنا الأبرار كانوا يستمطرونك بنبيك محمد عليه الصلاة والسلام فلما قضى إلى الرفيق الأعلى استمطروك بعمه العباس واليوم هؤلاء الحداثيون “الميكيافليون” يستغيثونك بخصومهم من أصحاب اللحى حفاظ كتابك وعمار مساجدك المتشبعون بتراث الأموات وثقافة الوراء، ولا غرابة في هذا فإن لكل مقام مقال، ومن كبر عليه المقام استعار له الكلام وعلى التسليم بأن مصالح تجارتهم ومنافع فلاحتهم تحملهم أن يكونوا خلف الركب ينصبون أيديهم بقلوب مخلصة فلا عجب في إلحاحهم ولا شك في إخلاصهم، فإن لهم أسلاف كانوا إذا ركبوا البحر وتحركت بهم لجَّته دعوا الهل بقلب منيب، ونذروا نضير النجاة أن يكونوا من الشاكرين، فلما وطئت أقدامهم اليابسة وسكنت نبضات الوجل ركنوا إلى فطرهم المريضة، فأصبحوا كأن لم يزاورهم بأس وأمسوا كأن لم يسألوا رفع ضر، بل رفعوا عقيرة الفساد والإفساد في الأرض وحولوا نعمة الله إلى نقمة ومنحته إلى محنة، فما أشبه حرارة نجاتهم بصيف بني جلدتي صيف إذا لاح في الأفق شعاع شمسه قامت قيامة القوم، حتى أني لا أعلم ردهة من الزمن يشتد فيها عدوان إبليس وأعوانه كزمن الصيف وكأن لتغيظ رمضائه قرابة بمادة خلق اللعين.
فإذا اشتد العدوان وقامت قيامة القوم فاسأل القرية عن صناديق المال العام، واستفسر عن حال المكتوين بلهيب غلاء الخبز والدواء والماء والكهرباء، واسألهم عن انجازات الذين يرمون حصن الإسلام بسهام الكذب والبهتان ليجيبوك أنها إنجازات ضخمة ومشاريع فخمة تتلخص ملامح الفخامة والعظمة في ارتفاع رقم المصطفين العراة بالمخيمات الشاطئية، وعن التزايد المريع في عدد المهرجانات الموسيقية والمواسم الثقافية التي يستقدم لها فنانون، إذا رآهم الجائع شبع وإذا استمع لهم المحتاج قنع، فكم من كربة زالت برؤية “هيفاء”، وكم من غمة انفرجت برقصة “عجرم”، وكم من مشكلة حلت بسماع “بلال”، وكم من معضلة ساهمت في حلها “منانة فناير”، وكم انتصرنا لوسطية الإسلام جراء الاحتفاء بصاحب قبة خضراء وولاية عصماء، وكم من أرحام عقيمة خصبت بعد استغاثة بالمقبور والنسك عن الحفر ومغاراة البحور.. وكم يدمي القلب الاسترسال مع هذه “الكمكمة” وكم أنت صادق أيها الصادق المصدوق فإنها والله أيام خداعة غيثها لا ينبت كلأ ولا يطفئ ظمئا، ماؤها سراب وتبرها تراب، تكلم فيها الرويبضة، وقال أن معركة التطور وسرية اللحاق بركب السيد الأبيض تقتضي وأد كل نفس منفوسة من تراث الأسلاف وعلم الأشراف، والاستعاضة عن ذلك بنفخ روح الحداثة في ثقافة القشور ثقافة تخلى فيها بنو علمان عن القلم والقرطاس، وعن الشعر الحصيف والنثر الشريف، واستبدلوا الكل بالطبل والهتاف وهز الأرداف، ثقافة نزفت منها صناديق المال العام، وأغدق بغير عد على كل صعلوك فاجر وعلى كل عانس سافر، فكم يا ترى من ضريبة تجبى؟ وكم من مستشفى عز فيه السرير، وشح فيه الدواء للفقير، وكم من أدمغة شبابية ركبت البحر فرارا من هذا الوأد الغادر؟ فاستفاد من نبوغها الغريب ومات لفقدها القريب، وكم يستحيي المرء مقابل هذا العقد المنفرط النفيس أن يسمع عن هؤلاء المثقفين الجدد الذين خرجتهم جامعة الحداثة وفرخت بيضتهم مدرسة المعاصرة ونضحت بأفكارهم كؤوس الثمالة، فيا ليت شعري أي ثقافة هذه التي صار من نتاجها مثالا لا حصرا، مثقف دكتور موضوع بحثه: تراث الفن الشعبي وبطن رسالته تتبع صغائر فن “العيطة” ودقائق فن “المرساوي”…إنها والله أيام خداعة ساد فيها الثبور وتطاول فيها العصفور على مقام النسور، وتكلم المعتر البائس في عرض التقي الفارس، ولا عجب، فإنه متى غاب الحياء ساد الغباء وعم البلاء، وإنه مما قيل قديما ووصلنا بالتواتر المحمود: “إذا لم تستحي فاصنع ما شئت”.