الجمعيات القرآنية بين المطرقة والسندان (طاحت الصمعة علقو الحجام)!!! حماد القباج

شبح قانون الإرهاب

في عام 2003م، وعلى إثر الأحداث الإجرامية التي هزت مدينة الدار البيضاء، أصدرت أغلب الجمعيات -التي تم إغلاق مقراتها مؤخرا- بيانات استنكارية نشرتها غداة تلك الأحداث، وقد تأكد لنا من خلال تلك البيانات ما كنا نعرفه عن هذه الجمعيات من انخراطها في سلك الحركة الوطنية لمكافحة الإرهاب، وأنها ملتزمة بالعمل في إطار القانون، وقد مارست أنشطتها التنموية طيلة عقود من الزمن.
ومع ذلك أصدرت السلطات الأمر بتوقيف أنشطة العديد من تلك الجمعيات التي كانت تسدي للمواطن المغربي خدمات جليلة تتمثل بالأساس في تحفيظ القرآن الكريم وتعليم تلاوته ومحو الأمية.
فتأثرت بهذا القرار شريحة واسعة من المستفيدين من تلك الأنشطة والخدمات، واستنكرت التوقيف غير المسوغ قانونيا ولا منطقيا، وتساءل الناس عن مصير الآلاف من الأطفال والشباب الذين كانوا يتفيؤون ظلال الحلقات القرآنية وينهلون من معين السنة النبوية بالدور التابعة لتلك الجمعيات؟

وزارة الأوقاف بين الوعد والوعيد
وقد طال ذلك الإغلاق -في مراكش وحدها- أكثر من عشر مقرات تابعة لجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش، فكان لذلك أثر سلبي واضح، الشيء الذي دفع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية -آنذاك- إلى الوعد بسد تلك الخلة التي أحدثها قرار الإغلاق، وأداء الواجب الشرعي الوطني الذي كانت تضطلع به الجمعية، فما وفت بذلك الوعد الذي كان أصغر بكثير من الوعيد، وبقيت تلك الدور خاوية على عروشها، معطلة عن أداء دورها:
فدار القرآن الكريم بفرع المسيرة -مثلا- تم بيعها لمدرسة المنار المجاورة!
ودار القرآن الكريم بفرع بلبكار اتخذت مستودعا لبعض الأمتعة بعد محاولة فاشلة لتحفيظ القرآن للصغار.
ودار القرآن الكريم بفرع أسيف تم إرجاعها إلى مالكها الذي كان قد اكترتها منه الجمعية! وهكذا..
ثم ظهر لوزارة الداخلية خطأ قرار الإغلاق، وأنه ترك فراغا قد يستغله البعض لما لا تحمد عقباه، فرخصت للجمعيات المغلقة مقراتها باستئناف مزاولة أنشطتها عام 2004.
تأهيل الحقل الديني بين مؤسسات الدولة والجمعيات القانونية المؤهلة:
ومما يتعين توضيحه في هذا السياق: أن تأطير وزارة الأوقاف لشريحة من المواطنين في باب التعليم والتوجيه الدينيين لا يمنع من إشراك الجمعيات القانونية التي أثبتت جدارتها وأهليتها؛ بل الحاجة لذلك قائمة وماسة إذا أردنا تأهيل الحقل الديني وجعله يسد حاجة المواطن كما صدرت بذلك الأوامر السامية، وليس من الحكمة ولا من التعقل إقصاء ذوي الأهلية والكفاءة تحت ضغوط خارجية أو غيرها من الأسباب، بل الواجب إشراكهم في إطار تعاون بنّاء مثمر يحقق المقصود.
ذلك التعاون الذي كان من نماذجه: طلب مندوبية الأوقاف في الأعوام الأخيرة من بعض هذه الجمعيات منحها عددا من القراء لإمامة الناس في صلاة التراويح وذلك في أكثر من مائة مسجد بالمملكة.
بل إن أبرز قراء المملكة الذين يتولون الإمامة بملايين المغاربة في صلاة التراويح حفظوا القرآن وتعلموا تجويده ببعض مقراتها؛ كالقزابري (مسجد الحسن الثاني) بالدار البيضاء، وهشام الزبيدي (مسجد الكتبية)، وسمير بلعاشية (مسجد حي السعادة)، ورشيد إفراد (مسجد إسيل) بمراكش، وإبراهيم أنفلوس (مسجد مصعب بن عمير) بفاس، وغيرهم كثير.
ومعلوم أن الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة الملك محمد السادس لحفظ القرآن الكريم سنة 1427 (معاذ الخلطي) هو من طلبة الأساتذة القراء بدار القرآن التابعة لجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش.
كما تسهم هذه الجمعيات في تنظيم العديد من المحاضرات والندوات الشرعية ترسيخا للثقافة الإسلامية الأصيلة المعتدلة، ومعالجة لكثير من القضايا التي ترفع من مستوى وعي المواطن المغربي.
ويبقى من أهم أنشطة هذه الجمعيات انخراطها في مبادرة التنمية البشرية التي أطلقها صاحب الجلالة؛ وذلك بمحاربة الأمية في صفوف المئات من الرجال والنساء الذين فاتهم ركب التمدرس.. إلخ.
نستشف مما سبق أن قرار وزارة الداخلية بإغلاق مقرات هذه الجمعيات مرة أخرى، وإقصاءها من مجال تأهيل الحقل الديني يعد خطأ جسيما لا يمكن تسويغه بأي حجة، أو تعليله بوجود ضغوط داخلية أو إملاءات خارجية..
ولا تزر وازرة وزر أخرى
أجل؛ لقد تم اتخاذ قرار بإغلاق أكثر من خمسين مقرا لتحفيظ القرآن الكريم على خلفية ما عرف بقضية زواج الصغيرة! بعد صدور بلاغ عن المجلس العلمي الأعلى وصف بالهزال العلمي، كما وصف قرار الإغلاق بالبعد عن الإنصاف والعدل:
إذ كيف يتخذ ذلك القرار ويصدر ذلك البلاغ في حق جمعيات وطنية قانونية أسدت الخدمات الجليلة للمواطن المغربي؟ بينما تمنح الرخص ويفتح الباب لأوكار الفسق والفجور ومحلات بيع الخمور، ويغض الطرف عن فشو السياحة الجنسية التي ظهرت آثارها التخريبية في عدد من مدن المملكة؟!
وكيف تهدر آلاف الحسنات التي عرفت لهذه الجمعيات بتلك الفتوى المزعومة التي أقصى ما يقال فيها -جدلا-: أنها سيئة واحدة مغمورة في بحر تلك الحسنات؟
وكيف يحجب موقع إلكتروني وطني متميز ويفسح المجال للآلاف من مواقع التنصير والإباحية؟!
هب أن رئيس إحدى تلك الجمعيات أخطأ، هل يصح -دينا وإنسانية- أن يعامل بهذه القسوة؟ وهل يصح أن يحمل أعضاء جمعيته والجمعيات الأخرى والمستفيدون من أنشطتها وزر خطئه؟! كلا.
المجلس الأعلى والأولويات
..ألم يكن أولى بالمجلس العلمي الأعلى أن يحفظ على الأمة دور القرآن وأن يسعى في إنكار مئات المنكرات التي تفشت في البلد؛ ومن ذلك ما تدعو إليه بعض الجهات من إباحة الشذوذ الجنسي وجر الشباب إلى أوحاله العفنة في موسم علي بن حمدوش وغيره، بل جهروا بالدعوة إلى التحول الجنسي؟ وقد تطايرت الصحف بخبر (الراقصة نور) التي كانت ذكرا اسمه نور الدين، فأبى إلا أن يصير أنثى ملأت صورها الصحف والمجلات! لماذا لا يشجب هذا الفحش المبين ولا تصدر بحقه بيانات المجلس الأعلى مع أنه يتصدر قائمة ما يجب النهي عنه من المنكر؟
وأدهى من ذلك السكوت عن المواسم البدعية وما تفشى فيها من ذبح ونذر لغير الله، وزنا ومعاقرة للخمور.. إلـخ.
وأين بيانات المجلس الموقر من إنكار حال الفتيات -من بنات التسع وغيرهن- اللواتي يسقن من الابتدائيات والإعداديات إلى المراقص والخمارات، وأوكار الجرائم الجنسية التي لا يجد فيها فساق العرب والعجم لذة أعظم من افتضاض الأبكار؟
ولم يعد خافيا على أحد ما انتشر في صفوف القاصرات من مظاهر الانحراف الفكري والتفلت الأخلاقي؛ وصار منظر الفتاة المدخنة، والفتاة الشاربة للخمر والفتاة المتاجرة بعرضها من المناظر الشائعة… وهو ما يجعل ذوي الغيرة والمروءة يخشون على بناتهم اللواتي استودعوهن أمانة عند وزارة التربية والتعليم فصرن مستهدفات من تيارات الإفساد والتخريب.
فلماذا لا تصدر البلاغات المنددة بتقصير المسؤولين الذي أدى إلى استفحال تلك الشرور، أليست هذه فتن وضلالات تزعزع الأمن الروحي للمؤمنين والمؤمنات؟؟
الكيل بمكيالين
ومن الناحية القانونية: ها هي ذي العديد من الجمعيات النسائية تطعن في جملة من القوانين ولا يتم إغلاق مقراتها ولا توقيف أنشطتها؛ وفي السنة الماضية طالبت إحداهن بإلغاء قوانين تجريم الزنا، وكان ذلك في مؤتمر تابعته وسائل الإعلام، فما حرك أحد ساكنا.
وفي هذا السياق طالبت خديجة الريادي رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان المغربية، الحكومة المغربية بإبطال العمل بالفصل 489 من القانون الجنائي المغربي الذي يجرم أي فعل من أفعال الشذوذ!!
فلم يتابعها أحد بتهمة المساس بالقانون الذي يصون أخلاق المغاربة وأعراضهم!
وبالأمس القريب، وعلى هامش ندوة صحافية بمناسبة اليوم الوطني للمرأة (10 أكتوبر 2008)؛ طالبت فوزية عسولي رئيسة الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة بتغيير القانون المنظم للتوارث بين المغاربة، بذريعة كونه يخل بالمساواة المطلوبة بين الرجل والمرأة، مع العلم أن ذلك القانون ينبني على أحكام قطعية في القرآن الكريم!!
ومع هذه المجاهرة الخطيرة بنقد القانون والشرع لم يحرك أحد ضدها دعوة قضائية!!
فلما تكلم رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بما وصف بأنه مخالفة للقانون، وضعت جمعيته وباقي الجمعيات القرآنية بين مطرقة البلاغ وسندان القرار، وكان الأمر على حد المثل الشعبي: (طاحت الصمعة علقو الحجام)!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *