قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر) رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حزم في الإحكام: (الاجتهاد هو افتعال من الجهد، فهو في الدين إجهاد المرء نفسه في طلب ما تعبده الله تعالى به في القرآن، وفيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا دين غيرهما).
قال الشاطبي في الموافقات: (الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان.. والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عن من ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته: أنه رأي بمجرد التشهي، وخبط في عماية واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزل الله).
وقال النووي في شرح هذا الحديث: (قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهلٍ للحكم، فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده..، قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك).
إذا علم هذا؛ فكيف يتصدى للكلام في الشريعة مَن لا بصر له بها ولا دراية، وأين دعواهم العريضة باحترام التخصص، واستهزاؤهم بأهل العلم إذا تكلموا بحق في مسائل الاقتصاد أو الطب وغيرها.
أم أن الأمر كما يقول الدكتور محمد عمارة في كتاب “الإسلام والمستقبل”: (إن الاجتهاد يجب أن يخرج وأن نخرج به من ذلك الإطار الضيق الذي عرفه تراثنا الفقهي، والفقهاء ليسوا وحدهم المطالَبين بالاجتهاد؛ بل إن المطالَب به هم علماء الأمة وأهل الخبرة العالية فيها، ومن كل المجالات والتخصصات؛ لأن ميدانه الحقيقي هو أمور الدنيا ونظم معيشتها، وليس إلحاق فروع الدين بأصولها..).
فالمجتهد عند الدكتور يمكن أن يكون بلا علم بالقرآن والسنة واللغة والأصول؛ لأن مجال المجتهد هو أمور الدنيا ولا يشترط لها كل هذا من العلوم الشرعية، وإنما يشترط لها أن يكون المرء مستنيراً عقلانياً تقدمياً ثورياً حضارياً؛ وهذه دعوة إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه لكل مدعٍ وعامي لا علم له بالكتاب والسنة.
وأخذا بهذا الرأي الذي يدعو إليه عامة من أطلق عليهم لقب (مفكرين) و(متنورين)، ظهرت أفكار وآراء جديدة لا يعرفها أهل العلم، فتجرؤوا على أحكام الشريعة وفروعها، بل على قواعدها وأصولها، فسمعنا الكفر البواح والرأي النشاز.
ومن مكايد أهل الإعلام أنهم يمدحون هؤلاء ويُعلون من شأنهم، فتراهم ملئوا فضاء القنوات، وسوّدوا صحائف الصحف بأفكارهم المخالفة لمنهج العلماء الربانيين وأقوالهم المناقضة لشرع رب العالمين، وقُدِّموا -وحقهم التأخير- ومُجِّدوا -وحقهم التحقير-. وإني سائق للقارئ الكريم بعض هذه الآراء تحذيرا للمؤمنين ولتستبين سبيل المجرمين.
يقول الدكتور محمد أحمد خلف الله في مقال “العدل الإسلامي وهل يمكن أن يتحقق؟”: (البشرية لم تعد في حاجة إلى قيادتها في الأرض باسم السماء؛ فلقد بلغت سن الرشد، وآن لها أن تباشر شؤونها بنفسها).
ويقول في كتاب “الأسس القرآنية للتقدم”: (ولقد حرر الإسلام العقل البشري من سلطان النبوة، من حيث إعلان إنهائها كلية وتخليص البشرية منها).
وهل هذا إلا إنكار صريح وتمرد قبيح على سلطان الله سبحانه وعلى مكان النبوة.
يقول الدكتور حسن حنفي في كتاب “قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر”: (يمكن للمسلم المعاصر أن ينكر كل الجانب الغيبي في الدين، ويكون مسلماً حقاً في سلوكه)، وأغفل هذا الجهول أن من أركان الإيمان الستة الإيمان بالغيب.
والشيخ عبد الله العلايلي -وهو مفتي لبنان الأسبق- يرى أن إقامة الحدود ينبغي أن لا تتم إلا في حال الإصرار، أي: المعاودة تكراراً ومراراً؛ إذ إن آخر الدواء الكي، قال في كتابه “أين الخطأ”: (إن إنزال الحد لا يتفق مع روح القرآن الذي جعل القصاص صيانة للحياة، وإشاعة للأمن العام، وليس لجعل المجتمع مجموعة مشوهين: هذا مقطوع اليد، والآخر مقطوع الرجل، أو مفقوء العين، أومصلوم الأذن، أو مجدوع الأنف).
فهؤلاء يتطاولون على قواطع الأحكام وإجماع الأنام، وهذا الشيخ مثال للأمانة إذا وسدت لغير أهلها، فقد رأينا من اعتلى أعلى المناصب الدينية، ولا يحسن قراءة آية من كتاب الله على وجه صحيح، وإذا تكلم لا يذكر حديثا إلا إذا أراد تأويله أو رده حسب ما لقن وطلب منه، والله المستعان.
ويرى حسين أحمد أمين في مقال “موقف القرآن من حجاب المرأة” الذي نشر في الأهالي القاهرية، أن الحجاب (وهمٌ صنعه الفرس والأتراك، وليس في القرآن نص يحرم سفور المرأة أو يعاقب عليه).
فإن انبرى عالم فأنكر خوض هؤلاء فيما لا يحسنون، قالوا: الدين ليس حكرا على أحد، وكل له الحق في الاجتهاد؛ فالراقصة تجتهد، وأرباب التمثيل والغناء، وأهل الرياضة والسفهاء يجتهدون؛ فأصبح الدين كلأ مباحا وعرضا مستباحا، يرتع فيه كل تافه وينزو عليه كل سافل، فإلى الله المشتكى.
ومنهم من يعترض على نظام الإرث في القرآن، ومنهم من يبيح زواج المسلمة من الكتابي، ومنهم من يرى أن أكل الخنزير اليوم حلال؛ لأنه يربى في مزارع نظيفة ويراقبه البياطرة، ومنهم من يرى جواز تقبيل الذكور للإناث من أجل التنفيس، فهذه وغيرها عند أصحابها اجتهادات جريئة، وآراء نيرة يجب أن تحترم.
يقولون هذا عندنا غير جائز *** ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟!
وما مثل هؤلاء الذين يريدون أن يخضعوا الشريعة لمصالحهم المزعومة وشهواتهم المحمومة، إلا كمثل ذاك الذي خاط ثوبا عند خياط، فلما ارتدى الثوب لم يتجاوز ركبتيه، فقال له الخياط: أما عملي فمتقن، لكن العيب فيك، فاقطع من ساقيك شيئا.
والله الموفق للصواب.