الوعي المقاصدي “حكمة بالذات … فتنة بالعرض” (3/3) الأستاذ عادل بن المحجوب رفوش

لا يفهم الشريعة حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم

أحيانا يتمنى المرء لو كان معنا امرؤ القيس ولو بدارة جلجل، لكان أفضل لنا من جلائل بني علمان. أخبر العروبيين منهم ـ إن كان فيهم عروبيون طبعا- لا يحسن إلا أصفادا من الشعر العبد وإن كان له إلمام بأدب فأدب الغرب والحداثة.
ولا يفهم الشريعة حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم “لأنهما سيان في النمط” كما يقول الشاطبي 5/53 ويقول: “فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولا وفروعا أن لا يتكلم بشيء من ذلك حتى يكون عربيا أو كالعربي” وقال: “فإن كثيرا من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل لا بحسب ما يفهم من طريق الوضع وفي ذلك فساد كبير وخروج عن مقصد الشارع”.
وقد بين رحمه الله في فصل ” قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام” وبناه على خمس مسائل كلها للقطع بأن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية 2/101
بل أبين من هذا قوله 5/53: “فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة أو متوسط فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ولا كان قوله فيها مقبولا.
فلابد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه..”.
وهاهنا أسجل أنني لا أنكر صعوبة واقعنا المعاصر، وخطورة موقف العلماء تجاه التحديات المتنوعة..
ولكنني أؤكد أن هذا ليس مسوغا للعبثية باسم الدين والفقه والمقاصد.. فشتان بين تقبل الوضع وتحمل المكاره وبين تشريع الوضع وتضييع الميزان الحق!!
اعتماد فهم السلف (الماضوية التي ينكرون)
وهذا الأصل من أهم الدوافع لاعتماد فهم السلف الصالح والمتقدمين وقد نوع في التأكيد عليه الشاطبي كثيرا، وأقتصر من ذلك على قوله: “فلذلك صارت كتب المتقدمين وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أي نوع كان وخصوصا علم الشريعة الذي هو العروة الوثقى والوزر الأحمى”1/153.

ردع المتلاعبين
معاشر العقلاء: نستطيع أن نجزم وبكل يقين بعد هذه “اللمحة من علم المقاصد” بأنه يجب على المعنيين بحراسة الشريعة ودفع المتطاولين على ثوابت الأمة أن لا يتهاونوا في ردع اللاعبين باسم المقاصد، فلئن كان حظر الوسائل لاحتمال الخطر سائغا في القانون ويجرم حامل السكين.. فلأن يجرِّم المتلاعبين بالمقاصد أولى.. وإذا وجب الحجر لاستصلاح الأبدان فالإجماع على أولوية الحجر لاستصلاح الأديان والعقائد..
وإلا استفحل الأمر وصار أسوأ مما نرى، وانقلب هذا العلم بروعته إلى لعبة زائفة ورغوة ناشفة، ستذهب جفاء وتنعدم قيمتها، وإذا تكلم بها بعد حين عدَّت عند السفهاء كهانة وتحكما ولا رادع لهم ولات حين مناص..
قال الشاطبي: “ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريَّان من علم الشريعة أصولها وفروعها منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب، فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب ما أودع فيه فتنة بالعرض وإن كان حكمة بالذات، والله الموفق للصواب” 1/124.
وهذا جلي في زماننا، حيث لم يصر حديث المقاصد إلا لزعزعة الثوابت نقلا من حاكمية الوحي إلى حاكمية الإنسان دون وحي.. تارة باسم الحرية كل يعمل على شاكلته وكأنه ليس من مقاصد الشرع “الاجتماع ونبذ التفرق” و”حفظ الأسرة” و”استتباب الأمن”.. وتارة باسم المساواة مناصفة في دريهمات الميراث ونسبية في الثروات المهدرة.. وتارة باسم العدل إرهابا عند الآية والحديث وإصلاحا عند المعقولية الحديثة.. قسوة عند شريعة الحدود ورحمة عند انتشار الجريمة اغتصابا وغصبا وتصيير السجون مدارج لتخريج المجرمين بدورات معمقة تحت إشرافٍ وطني، وإنفاقا من أموال الشعب ودافعي الضرائب.. مع أنهم لا يناقشون الطبيب إذا بتر عضوا في جراحة ولو خطأ.. وإن عجزنا عن التطبيق فليس العجز مسوغا للتحريف..
وتارة باسم التسامح أترحم على “بابا الفاتيكان” وفي السكوت سعة عن أن تعارض الشرع أو تفتعل الجرح بيديك..
وهكذا في صور شتى وفتن باسم المقاصد تترى، تغريرا بالناس حتى يظنوا موافقة الشرع كيفما فعلوا، فلا ينبعث وازع الإيمان على إنكار ما يراد بهم من مكر الليل والنهار.. حتى جعلت فيما مضى غير بعيد الرئيس التونسي “بورقيبة” يفتي مراعاة للمصالح بإفطار رمضان 1961 حتى لا يضعف الإنتاج أخذا بمقاصد الشريعة في تغليب الجهاد الأكبر على الجهاد الأصغر؟! وإنها لإحدى الكبر!!
وهذا نتيجة طبعية لتأصيل العلمانيين كقول من قال: “فالقراءات المهمة للقرآن ليست هي التي تقول لنا ما أراد النص قوله وإنما التي تكشف عما يسكت عنه النص أو يستبعده أو يتناساه” (نقد النص لعلي بن حرب ص.25) وكأني به لم يقرأ في النص قوله تعالى: “ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين”..
ولو أعملنا هذا “الفكر المزاجي” الذي يقترحه العلمانيون لما صار في التاريخ خطأ ولا ضلال، ولا احتاج الخلق إلى رسالات ومرسلين، لأنه لم يوجد في التاريخ أحد عمل ضد مصلحة نفسه أو المقصد الذي يلائمه.. ولكن أين هو الصواب؟! وإن لم يعينه الخالق بالقول الفصل الذي ليس فيه ريب ولا باطل ولا هزل فمن يفصل فيه ما دمنا نؤمن بالخالق الحق تعالى؟!
والدعوة أن نكون يدا بيد.. حتى لا يتكلم باسم الشريعة كافة الشوارع، ومن ليس أهلا لها ولا ساريا على نظام اعتبارها عند علمائها وأهل روعتها، وأن علم المقاصد في ميزان الشريعة أحد أصولها المؤدية إلى قانون الاجتهاد فيها كالإجماع والقياس والاستحسان والاحتياط ونحوها من الأصول العامة التي لها ضوابطها وتفاصيلها التي هي الفارق بين الحفاظ عليها “حكمة بالذات” أو تصييرها “فتنة بالعرض”
كما حذر الشاطبي رحمه الله ونبه.. والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *