من المواقف التي شغلت كلا من المهتمين بالدعوة والمهتمين بالسياسة في الآونة الأخيرة: موقف السلفيين من المشاركة السياسية بعد نازلة ثورات ما سمي بالربيع العربي..
وقد سال في هذا الموضوع مداد كثير؛ فكتبت مقالات ومؤلفات، وعقدت ندوات وألقيت محاضرات، كما أن عددا من الباحثين جعلوا هذه المسألة موضوع دراسات معمقة..
وقدم المحللون السياسيون قراءات وتحليلات متنوعة في هذا الموضوع..
وقد استخرت الله تعالى في كتابة مقالات في إبراز التقريرات والتأصيلات الشرعية في باب السياسة عموما والمشاركة في الأنظمة السياسية المعاصرة بشكل خاص، وتوخيت تأسيس هذه التقريرات على تحري الحق والصواب من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضوء منهاج السلف الصالح وسنة الخلفاء الراشدين.
وقد تقرر أن هذا المنهاج هو طريقة الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان، وهي الطريقة التي قررها الأئمة الكبار في تأصيلاتهم ومناهج استنباطهم؛ أعني بهم: أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد والليث والأوزاعي والسفيانين.. وغيرهم من الأئمة الأعلام، رحمهم الله.
أما السلفيون المعاصرون (المنتسبون إلى السلف الصالح)؛ فيتفاوتون كغيرهم من (الإسلاميين) قربا وبعدا مما تقرر في الأصول الشرعية في هذا الباب؛ فمنهم من يتطرف في الخطأ نحو الغلو إلى درجة الزعم بأن كل مشاركة في السياسة انحراف، كما أن من (الإسلاميين) من يتطرف في الجهة المقابلة إلى درجة الزعم بأن الديمقراطية هي النظام الأمثل في الحكم لتحقيق العدل ومدافعة الاستبداد، وأنه ينبغي الانخراط فيها جملة وتفصيلا!
ومنهم من يتوسط توسطا شرعيا تلمس فيه الاعتدال والإنصاف والحكمة والبصيرة، وعلى رأس هؤلاء الأئمة الكبار من أهل العلم والبصيرة، من أمثال شيوخ مشايخنا: شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي والعلامة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي والعلامة الإمام محمد سالم ولد عدود والعلامة الفقيه محمد بن صالح بن عثيمين والإمام القدوة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ومن سار على طريقتهم من مشايخنا..
وإذا كنت أعتبر نفسي واحدا من أولئك السلفيين الذين يتفاوتون بعدا وقربا من الصواب؛ فإنني حريص غاية الحرص على اقتفاء أثر أولئك السلف الصالح وهؤلاء الخلف الذين ساروا على دربهم، وتتبع أصولهم والاستفادة من فتاويهم، مع البعد عن التقليد المذموم، والسطحية التي تضر بالعلم عموما وبمعرفة الصواب في هذا الباب منه على وجه أخص..
هذه السطحية تقود إلى أخطاء من قبيل:
الكلام في أبواب العلم على وزان واحد؛ ومن ذلك: سحب منهجية التعامل مع “فقه العبادات” على منهجية التعامل مع “فقه السياسات”، وتنزيل أحكام “فقه السعة والاختيار” على واقع “فقه التزاحم والاضطرار”.
و من قبيل:
الاقتصار في تطلب الحكم الشرعي على جانب من النصوص دون جوانب أخرى، وقد تقرر في منهج الاستنباط أن “الباب من أبواب العلم إذا لم تجمع نصوصه لم يظهر فقهه”.
ومن قبيل:
جعل فتوى العالم حجة لازمة مع تغير مناطات الفتوى، ومن أصحاب هذا الخطأ من تراه يعرض عن فتوى العالم نفسه مع تأكد مناطها.
ومن قبيل:
عدم تحرير موطن النزاع، والتوسع في تقرير حكم مسألة معروفة الحكم، مع أن المطلوب حكم مسألة أخرى أدق منها وأكثر غموضا..
ومن قبيل:
الوقوف في بحث الموضوع عند نصوصه المعروفة أو بعض الفتاوى المتداولة، دون التعرض لحل مشكل تلك النصوص أو الفتاوى (أي تحرير القول في فقهها عند التعارض)..
إلى غير ذلك من مظاهر السطحية في الفهم ..
وهنا أجدني مضطرا للتأكيد على أهمية فهم الألفاظ -بمعانيها العميقة- للوصول إلى الصواب في هذه المباحث، وهو شيء زائد على العلم ومعرفة ظواهر الألفاظ، وهو ضروري لمعرفة حكم الله تعالى في النوازل والمستجدات المهمة والحساسة:
قال الله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78-79].
فكلاهما عنده علم، لكن سليمان أوتي فهما أصاب به الصواب في هذه المسألة.
وهذا هو الاستنباط الذي يتفاوت فيه أهل العلم، والذي أمر الله تعالى بالرجوع إلى أهله في المسائل الشائكة والمعقدة:
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه وأخبر أنهم أهل العلم؛ ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومشبهه ونظيره، ويلغى ما لا يصح، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج.
ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به: العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم، والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقته ومعناه.
ويوضحه أن الاستنباط: استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه، ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين، ومن هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه -وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟- فقال: “لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه”.
ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ومراد المتكلم بكلامه ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المراد، ولا يخرج منها شيء من المراد”اهـ.
إن قول القائل: يجب ترك كل أنواع المشاركة السياسية والانشغال بالدعوة؛ خطأ فادح، مناقض لقواعد العلم وفتاوى أهل الاستنباط وفقه التدافع.
وفداحة الخطأ تكمن في كونه يعطي فرصة لمن يكرهون الدعوة والدعاة؛ ليمارسوا السياسة من أجل توظيفها في محاصرة الدعوة والتلاعب بها..
ولا يتصور من هؤلاء أنهم إذا استفردوا بالمجال السياسي سوف يتركون الدعوة حرة طليقة تصلح الناس وتقاوم فجورهم وفسادهم..
فهذا تصور قاصر ينم عن جهل بسنة الله في التدافع:
قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251].
قال ابن عَبَّاس وَمُجاهد ومقاتل: “لولا دفع الله المشركين بالمسلمين؛ لغلب المشركون على الأرض؛ فقتلوا المسلمين، وخربوا المساجد”.
وهذا القتل والتخريب من أخطر أنواع الإفساد في الأرض.
وقريب منه: محاصرة العمل الدعوي وتجفيف منابعه والتضييق على رجاله، وقد شاهدنا صورة حية لذلك تحت عنوان: (الحرب على الإرهاب)، وهي حرب نكل فيها فجارُ السياسيين بالدعوة وأهلها: قتلوا الأبرياء وسجونهم بالشبهة -وأحيانا بالتزوير-؛ وهدموا المساجد، وأغلقوا المدارس، وضيقوا على الدعاة والخطباء، وصادروا الحقوق القانونية والأوقاف والعمل الخيري..
كل هذا بسبب أفعال طائشة لجهال لا ندري من يحركهم، وكان بالإمكان منعهم من الوصول إلى تلك الأفعال الرعناء !
يتبع إن شاء الله تعالى