لقد خلق الله الإنسان لعبادته، فالعبودية هي المقصد الأهم، والمحور الذي يجب أن تدور حوله وتنطلق منه جميع أعماله ومعاملاته واهتماماته ومقاصده.
والإسلام عندما بيّن جميع نواحي العبادة، وما يتصل بها، لم يتجاهل كون الإنسان اجتماعياً بطبعه، وما للمجتمع الذي يعيش فيه من تأثير على نفسه وتفكيره وسلوكه.
ومن أجل ذلك جاء الإسلام بالأسس المتكاملة، وهي النّظام الذي يقوم عليه المجتمع المسلم، وهو نظام يمتاز بالشمول ومراعاة الحال، ويضمن سير الحياة فيه على وجه يحقق العدل والأمن والحياة الكريمة لكافّة أفراده، كما يمنحهم الفرصة بالمشاركة في التنمية الحضارية، مما يدفع المجتمع إلى مستوى رفيع من الإنتاج الاقتصاديّ والزراعيّ والتجاريّ والصناعيّ، وفي كافة المجالات.
وبهذا يحصل التّوازن في سعي النّاس في المجتمع المسلم بين قيامهم بمتطلبات العبودية التي من أجلها خلقوا، وبين كدحهم في استثمار واستغلال ما سخّره الله لهم على الأرض طلباً للرزق ومتطلبات الحياة وعونا على طاعة الله تعالى كما قال سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} القصص77.
وهم في سيرهم في كلا الأمرين يُحكمون بمنهج رباني يسترشدون به في كل ما يأتون أو يذرون، فيأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم، ويباعدهم عن سبل الضلال وظلمات الجهل.
والحق أن المجتمع المسلم بتعاليمه وشرائعه، وقيمه وأنظمته، وضوابطه، وكوابحه حصن متين يتحصن به المسلمون من خصائص الضلالة والغواية، وهذا الحصن مكوّن من دعامات وسدود يقوم كل منها بسد ثغرة يحتمل تسلل الفساد من خلالها إلى قلب المجتمع المسلم.
وبقدر صلابة وتماسك هذه الدعامات، تكون قوة وتماسك الحصن الاجتماعي، وإذا ضعفت فتحت فيه ثغرات يتسلل منها الضلال الفكري والسلوكي إلى جسد الأمة، فيضعف المجتمع وتنخر فيه عوامل الفساد.
وهذا الأثر العظيم للمجتمع المؤمن -وهو كونه حصناً لأفراده- يفسر بعض جوانب الحكمة في عناية الشارع بإقامة المجتمع المسلم، وتنظيمه، والتأكيد على وجوب لزوم جماعة المسلمين، وإيجاب الهجرة إلى بلاد الإسلام، والنهي عن مساكنة المشركين.
فالإسلام يحتّم على أتباعه الانضمام إلى المجتمع المسلم ليصطبغوا بصبغته ويسايروا تعاليمه، ويوالوا أهله، ويحكموا بنظامه، ويحتموا بحماه من شرور المنكرات والأفكار المضللات.
فالإسلام بإقراره هذه الأسس يقدم للناس المجتمع المتحضر حقاً، الذي يشعر فيه الإنسان بإنسانيته وتكريم الله له، ويحس بسموّ هدفه، وإثمار سعيه في عبوديته: ولاية الله في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة.
ويرى ثمرة كدحه في شؤون دنياه: تقدماً علمياً وصناعياً وزراعياً وتجارياً واجتماعياً.
ويولي الإسلام هذه الأسس عناية خاصة لما لها من الأهمية في استقرار المجتمع المسلم، وتحصينه وسلامته من المؤثرات الجاهلية، وتتجلى هذه العناية بدقّة البيان لتفاصيل كلّ منها، وبالتشديد على إقامتها والتحذير من الإخلال بشيء منها.
وبقدر اهتمام الإسلام بتوطيد هذه الأسس، يعمل أعداء الإسلام جاهدين على زعزعتها وإضعافها، ليسهل عليهم التوغل في المجتمع المسلم والإفساد فيه مما يستوجب الحذر.
فالمؤمنون في مجتمعهم يحاطون بأسوار إيمانية تحميهم من الأخطار الداخلية والخارجية، وهذه الأسوار يؤثر بعضها في بعض، فإذا انهدم سور منها أو اختل انهدم أو اختل سور آخر قائم عليه أو متأثر به.
ويمكن حصر هذه الأسوار الإيمانية في ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: ما يتعلق بالرابطة الإيمانية التي تشد أفراد المجتمع بعضهم إلى بعض، بالشعور المشترك بالعبودية لله وحده.
المجموعة الثانية: ما يتعلق بقيام الدولة وعلى رأسها ولي الأمر وأعوانه من الوزراء والأمراء والقضاة بما عليهم من واجب تنفيذ الدين والدفاع عنه.
المجموعة الثالثة: ما يتعلق بوضع الدولة المتمكن في الأرض ومنزلتها المهيبة بين الأمم، وما له من الأثر في استقرارها الداخلي وحصانتها الفكرية وذلك يرجع إلى أخذها بأسباب القوة والعزة المتمثلة في العدة الإيمانية والمادية.
والله الهادي إلى سواء السبيل.