النموذج السابع: التصحيح الكشفي والتضعيف الكشفي:
لم تكتف عقول جماهير الخلف بالسكوت على حال الأحاديث الضعيفة وبناء الأحكام الشرعية عليها، بل تعدت هذا القدر إلى قبول ما هو أغرب وأشنع منه؛ ذلك هو قبولهم “بدعة التصحيح والتضعيف الكشفي” للأحاديث، وسكوت بعض أهل المعرفة منهم على خطرها العظيم.
وخطر هذه البدعة يتجلى في كونها نسخا لعلوم الحديث كلها؛ ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن بدعة رد أحاديث الآحاد وقبول الضعيف في فضائل الأعمال تَلاعُبٌ جزئي بنصوص الحديث التي بيَّن حالها علماء الحديث، أما بدعة التصحيح والتضعيف الكشفي فهي نسف كلي لعلوم الحديث وانخداع بأوهام غلاة الصوفية.
وأسجل في موضوع شناعة التصحيح والتضعيف الكشفي ما أورده الشيخ إسماعيل العجلوني الدمشقي في مقدمة كتابه “كشف الخفاء ومزيل الإلباس” على سبيل الإقرار والاعتداد به! قال: “والحكم على الحديث بالوضع أو الصحة أو غيرها، إنما هو بحسب الظاهر للمحدثين باعتبار الإسناد أو غيره، لا باعتبار نفس الأمر والقطع، لجواز أن يكون الصحيح مثلا باعتبار نظر المحدث موضوعا أو ضعيفا في نفس الأمر وبالعكس، وفي الفتوحات المكية للشيخ الأكبر قدس سره ما حاصله: فرب حديث يكون صحيحا من طريق رواته يحصل لهذا المكاشف أنه غير صحيح لسؤاله الرسول صلى الله عليه وسلم فيعلم وضعه ويترك العمل به وإن عمل به أهل النقل لصحة طريقه، ورب حديث ترك العمل به لضعف طريقه من أجل وضاع في رواته يكون صحيحا من نفس الأمر لسماع المكاشف له من الروح حين إلقائه على رسول الله صلى الله عليه وسلم”!!
قال أبو غدة: “هذا ما نقله العجلوني وسكت عليه واعتمده، ولا يكاد ينقضي عجبي من صنيعه هذا وهو المحدث الذي شرح صحيح البخاري، كيف استساغ قبول هذا الكلام الذي تهدر به علوم المحدثين وقواعد الحديث والدين، ويصبح به أمر التصحيح والتضعيف من علماء الحديث شيئا لا معنى له بالنسبة إلى مَن يقول أنه مكاشَف أو يرى نفسه أنه مكاشَف، ومتى كان لثبوت السنة المطهرة مصدران: النقل الصحيح من المحدثين والكشف من الكاشفين؟! فحذار أن تغتر بهذا والله يتولاك ويرعاك”.
قلت: هل يشك مسلم بعد هذا البيان أن الكثير مما يعتبره الخلف قواعد علمية ومناهج مفيدة فلول متنكرة مقنعة من الغزو الفكري، اللهم فلا، والفطن يدرك بسهولة أن الفرق الذي بين هذا النوع من الغزو الفكري القديم وبين الأنواع الأخرى إنما هو هذه الأقنعة التي تتستر بها، وهي أقنعة مكتوب عليها: “قواعد ومناهج علمية من صنع العلماء ولا يشك أحد في كفاءتهم وإخلاصهم ونزاهتهم”، وهذه الأوصاف نفسها هي التي حجبت بصائر الخلف عن أن تدرك أن هذه القواعد والمناهج غير أصيلة في الإسلام، وقديما قيل: “الشهرة حجاب”، وإنما يدرك زيفها ويعرف هجنتها من تشبع بروح الكتاب والسنة، وهم من هذه الأمة كما قال القائل:
وقد كانوا إذا عُدوا قليلا *** فصاروا اليوم أقل من القليل