الصيف وكثرة النعم.. أنشكر أم نكفر؟ أحمد اللويزة

لقد منَّ الله علينا هذا العام بخيرات مطرية بشكل لم يعد مألوفا منذ سنين بل كاد الناس أن ينسوا لها مثيلا في أعوام خلت وقد استبشر الناس بها خيرا وإن وقعت فيضانات ألحقت خسائر وخلفت آلاما نرجو أن تنسيها غلة العام ومحصول الجني ولا ينسينا واجب الشكر والعرفان للملك الديان.

ولأن الناس لهم ترتيبات تبعا لمستوى الموسم الفلاحي وانخراطهم في الاحتفال بمواسم كهذه وبطرق شتى أكثرها لا يرضي الكريم المنان، ولا يوفي حقه في الثناء والامتنان وجب التذكير والبيان أنَّ الشكر وقاية من كل غضب رباني ومطية كل مزيد إلهي لقوله تعالى: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ”إبراهيم، والشكر لا يكفي فيه قول اللسان كما هي دعوى كثير من الناس وقليل من عباد الله الشكور بالفعل والعمل الذي هو حقيقة الشكر: “اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً” سبأ.
لذا، نجد كثيرا من الناس يثنون على الله بألسنتهم على ما تفضل علينا به من متعدد الخيرات وجزيل النعم التي تملأ كل مكان؛ نِعمٌ تبهر الناظرين وتسر المتنعمين، لكنها في الوقت نفسه تخيف المستبصرين الذين يخشون استدراج الجبار، فتتحول تلك النعم إلى نقم والخيرات إلى مضرات إذا عريت عن الشكر وفشا في أهلها المنكر، وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وهو الذي حذر في محكم تنزيله في كثير من آياته وصريح محكماته من الاغترار بكثرة عطاياه دون أداء حقها من الشكر كما يجب وبما يليق بمقام العلي الكبير، من ترك للمنكرات وفعل للخيرات وتقوى وإحسان وزكاة وتصدق وكل قربان… فقد قال جل في علاه ـ والخطاب موجه لكل مؤمن بالله مصدق بكتابه راض بدينه ولا نصيب فيه لكل متنطع ناقم على شرع ربه ومولاه: “حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ” يونس. فالأمر لله من قبل ومن بعد. وفي سورة “ن” قصة للعبرة ذكرها الله عن أهل الجنة الذين “أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ” القلم. وبيتوا أمرهم على أن لا يؤدوا حق الله فيما رزقهم إياه ولم يبالوا بواعظهم ومحذرهم من مغبة فعلهم ـ كما هو ديدن الكثير اليوم “فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ” القلم. وكان أمر الله مفعولا وهو أعلم بما يبيتون، وقصة قوم سبأ الذين كانت “فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ” سبأ. وقد قيل لهم “كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ” سبأ. فكان من أمرهم أن قال الله “فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ…” سبأ. وبدلت أحوالهم إلى نقمة وخيراتهم إلى حنظل وأشواك. وتلك عاقبة من غره جزيل العطايا، وأنساه ذكر المنايا حتى أخِذ على حين غرة.
أما اليوم والناس قد فُتِحت عليهم الخيرات من كل جانب ومن كل الأنواع واتفقت لهم في زمان ومكان واحد بشكل لم يسبق له مثيل وهم يرفلون في هذا النعيم ذات اليمين وذات الشمال وقليل منهم من يذكر المنعم أو يتذكره، وحال الكثير منهم في علاقته مع ربه لا يثلج صدرا ولا يسر قلبا ولا يفرح ناظرا؛ فكيف والعصيان مجاهرة تعددت أشكاله وأنواعه، ولم يراع لله حقا ولا لدين حرم.
فهذا الصيف قد وضعت البرامج والترتيبات، وعند التأمل لا تجد فيها لله نصيب وهو المنعم المكرم، وهاهي قاطرة المهرجانات ـ حد الله بأسهاـ قد انطلقت وهاهي مواسم الشرك والوثنية ترجلت وتلك أعراس لله درها كم اجتمعت فيها من بلايا، وها هي أسفار ورحلات تحلل أصحابها من كل قيد، وتلك شواطئ العراة تمالأ الناس فيها على ما تعلمون …إنها قائمة لا تجد فيها إلا الخنا والخنوع والفسق والفسوق والانحراف والانتكاس هنا وهناك وما بينهم، وكأن الله قد أباح في الصيف ما لم يبحه في غيره، وكأن الكرام الكاتبين هم أيضا في عطلة صيفية تركوا أهل الذنوب لحالهم وأهل الطاعة لقرباتهم، لا وألف لا، وهم الكرام الكاتبين يعدون الأنفاس ويحصون الزفرات ولا يعصون الله ما أمرهم ولذلك خلقهم.
هذا واقعنا في فصل الصيف فما علاقته بالنعم وواجب الشكر وقدر النقم، نعم لقد فرح قوم عاد بمجيء السحاب ظنوه ممطرهم فكان ما استعجلوه من العذاب؛ ريح تدمر كل شيء بإذن ربها، ألم يفرح أناس اليوم بكل هذه الخيرات؟ ألم يقل الله تعالى في كتابه العزيز”فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً” الأنعام؟ ألم ننس الذكر واستهزأ بعضنا بالذكرى وقد قيل لهم لولا تسبحون ودخل كثيرون جنانهم وهم يقولن ما نظن أن تبيد هذه أبدا؟ًًَََ لئن أظهر البعض الفرح بخيرات الصيف بالمعاصي وبدلوا نعمة الله كفرا، فإن آخرين أيديهم على قلوبهم وهم يقولون ربنا لا تواخذنا بما يفعل السفهاء منا واجعل صيفنا رحمة ولا تبدل النعمة نقمة وبين أعينهم قوله تعالى: “أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُون أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ”، وحينها لا ينفع حذر من قدر، وإذا نزل لا تنفع معه لا صفارات إنذار ولا صيحات تحذير ولا شطارة متيقظين، نقول هذا الكلام معذرة إلى ربنا ولعلهم يتقون، وهذا الصيف قد جاء فلا تضيعوا اللبن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *