أصدرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مذكرة عممتها على المجالس العلمية المحلية تطلب منها بمقتضاها حث العلماء والخطباء والوعاظ على “أن يجلوا للناس عبر خطبهم المنبرية ودروسهم الوعظية حقيقة الدور الريادي لمزارات الأولياء في تأطير وتحصين المواطنين عقيدة ومذهبا وسلوكا”.
والمتأمل لمشروع وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية منذ تعيينه يدرك أن الوزير البودشيشي لا يدخر جهدا في إحياء الزوايا والمزارات، وعقد المؤتمرات وإعداد البرامج الإعلامية حول الأولياء والأضرحة، إلا أن إقدام الوزارة على تعميم مذكرة تفرض على العلماء والخطباء والوعاظ الدعاية للزوايا والأضرحة يعد سابقة خطيرة تهدد عقيدة المغاربة لما تعرفه هذه الأماكن من أعمال شركية وبدع تمس العقيدة الإسلامية الصافية وخرافات ودجل وشعوذة، تتنافى مع دعاوى الحداثة والتنور، وتتعارض بل تتناقض مع “التصوف” السني للجنيد وأمثاله.
كان من الواجب على الوزارة بدل دعوة العلماء إلى تلميع الزوايا والأضرحة في أعين الناس، أن تجندهم ليحذروا المسلمين من خطرهم ويبينوا ما يمارس في تلك الأماكن من انحرافات عقدية وسلوكية، لكن يبدو أن السيد الوزير لا يزال تحت تأثير المُسَلمة الوهمية التي أريد لها أن تحكم مشروع الإصلاح الديني ولو عارضت مذهب وعقيدة وسلوك المغاربة، وهي أن إحياء التصوف والأضرحة هو الحل الوحيد لمحاربة الوهابية والتطرف. في حين أن الوهابية لا وجود لها في المغرب كما أن التطرف يبقى ظاهرة ضعيفة بالنسبة للمغرب رغم ما عرفته بلادنا من أعمال إرهابية.
وعندما نقول إن التطرف ظاهرة ضعيفة في المغرب لا نقصد التهوين بل نرمي إلى البعد عن التهويل، الذي يجعل كل من دعا مثلا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية متطرفا وكل من ارتدت النقاب إرهابية وكل من أرخى اللحية متشددا، مما يوسع دائرة الصراع بين المغاربة كمواطنين من جهة، وبين هؤلاء ودولتهم من جهة أخرى مما يمكن اعتباره من المعوقات الحقيقية للإصلاح الديني.
إلا أنه رغم القول بضعف التطرف في المغرب إلا أننا نرى من الواجب على كل مغربي أن يناهض أعمال الشغب والعنف والإرهاب التي يمكن أن تستهدف بلادنا، وما نسمعه من محاولة استهداف تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي لأمن المغرب هو جريمة وإرهاب مخالف للإسلام، يجب على كل مسلم غيور على دينه وبلاده أن يحذر منه ويحاربه.
إن التطرف والتزمت والتشدد والإرهاب كلها ألفاظ تحمل في قوالبها معان لا يمكن الاتفاق حولها إلا إذا توحدت مرجعية المتفقين الدينية والفكرية، فما يعتبره العلمانيون تزمتا كاللحية والنقاب وامتناع النساء عن مصافحة الرجال ونبذ العري على الشواطئ وفي الشوارع ورفض اللواط “الشذوذ الجنسي” ورفض أن يولد الطبيب الرجل المرأة، وربط العلاقات المحرمة بين الجنسين قبل الزواج وغيرها مما يعتبره العلمانيون أو بعض من يتبعون أهواءهم من التشدد والتطرف والتزمت، ينظر إليه المتدينون المتبعون لتعاليم الإسلام
من المحرمات والذنوب والآثام، فما دمنا لم نحدد المرجعية الدينية والفكرية فإن استمرار الصراع والاختلاف حول هاته المفاهيم سيبقى حتميا.
ورجوعا إلى موضوع إحياء الأضرحة والزوايا والمزارات، نتساءل لماذا كلما تُحدِّث عن الصوفية يتم الهجوم على السلفية نابزين السلفيين بـ”الوهابية”؟
إن الأمر له جذور تاريخية لعب في ترسيخها المحتل الأوربي والأمريكي دورا بارزا، فعندما كانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية في شبه الجزيرة العربية في أوجها تدعو إلى نبذ الخرافات والبدع والتمسك بالدين الصافي والرجوع إلى الحنيفية السمحة وأمام ما عرفته من ازدهار وقبول بين المسلمين، ازدهار وقبول أكسباها أعوانا وقوة، اضطر الإنجليز إلى الضغط على محمد علي حاكم مصر ليحرض الزوايا المصرية للدعاية ضد الشيخ ودعوته، وأجبروه على شن حرب شرسة بالشراكة مع القوات الإنجليزية لمواجهة توسع أتباعه، وبالفعل تم إرسال جيش كبير بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي، وكعادة الغرب عمل المحتل على اختلاق التهم وإبداع الأكاذيب وتلفيقها لكل من قبل دعوة الشيخ أو اتبعه.
من ذلك الحين والغرب يعمل جاهدا على إطلاق وصف “وهابي” على كل من يدعو إلى الرجوع إلى الإسلام النقي وينبذ الخرافات والبدع وتقديس “الأولياء” وينكر بدع الصوفية ويحذر من شركياتهم، التهمة نفسها “وهابي” واجهها دعاة الإصلاح في المغرب أمثال الشيخ الجليل عبد الله كنون والشيخ داوود والشيخ محمد بن المدني الناصري، وأخوه الشيخ المفسر الوزير المكي الناصري، فقد كان شيوخ الزوايا وسدنة الأضرحة وكذا قادة الاحتلال الغاشم ينبزونهم بتهمة الوهابية والتكفير وما إلى ذلك من التهم الجاهزة، خصوصا بعد إصدار الشيخ الوزير أبو عبد الله المكي الناصري رحمه الله تعالى رحمة واسعة لكتابه “إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة” الذي كان موضوع استنكار وهجوم من طرف أرباب الزوايا، رغم أن هذا الكتاب لم يكن سوى وصف دقيق لحال الزوايا والأضرحة وما تعرفه من بدع شركية وخرافات وشعوذة وبيان مخالفتها للعقيدة الإسلامية السليمة الصحيحة.
فهل يشك أحد في وطنية أمثال الشيخ المكي وكنون وقد وليا الأمانة العامة لرابطة العلماء، كما وليا مناصب رسمية عديدة بالإضافة إلى كونهما كانا من أفذاذ الإصلاح ورواد التجديد في المغرب إلى جانب نضالهما وجهادهما ضد المحتل، فهل يمكن اعتبار أمثالهما وهابيين خارجين على مذهب البلاد وعقيدته وسلوكه لمجرد أنهم ينبذون بدع الزوايا ويحذرون من خرافات القبوريين؟
قال الشيخ المكي الناصري واصفا حال الزوايا في كتابه المذكور:” فمنهم -أي الصوفية- الذين اتخذوا القبور حرمات ومعابد، فبنوا عليها المساجد والمشاهد، وزخرفوها بما يجاوز حد السرف بمراتب، واصطلحوا فيها على بناء النواويس (1) واتخاذ الدرابيز والكِسا المذهبة وتعليق الستور والأثاث النفيسة، وتزويق الحيطان وتنميقها، وإيقاد السرج فوق تلك القبور ككنائس النصارى وسَوْق الذبائح إليها، وإراقة الدماء على جدارنها، والتمسح بها، وحمل ترابها تبركا، والسجود لها وتقبيلها، واستلام أركانها والطواف حولها، والنذر لأهلها، وتعليق الآمال بهم، والتوسل إليهم بالله ليقضوا لسائليهم الحوائج (كما يزعمون)، فيقولون عند زيارتهم: “قدمت لك وجه الله يا سيدي فلان الا ما قضيت لي حاجتي”، جاعلين الحق سبحانه وتعالى وسيلة تقدم إلى أولئك المقبورين للتوصل إلى نيل أغراضهم.
…
ومنهم من لم يرضوا بالشرع المبين، فابتدعوا أحكاما في الدين، وشرعوا واجبات وسننا ومستحبات، واخترعوا عبادات وقربات، لم يأت بها الإسلام ولا عهد له بها، كأن الله تعالى ترك لنا ديننا ناقصا فأكملوه، أو أودع لنا فيه سبحانه بعض الفساد فلم يوافقوا عليه وأصلحوه، أو لم ينزل على رسوله يوم حجة الوداع تلك الآية الكريمة المشيرة إلى إكمال هذا الدين الإسلامي: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً” المائدة3، أو لم يقل رسوله في خطبته فيها: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي”، أو لم يتم تبليغ رسالته فهم أتموها لنا، أو كتم أو أسر شيئا من الدين كما يزعمون، تعالى الله عما يقولون، وتنزه رسوله عما يأفكون.
ومنهم جماعات اتخذوا دين الله لهوا ولعبا، فجعلوا منه القيام والرقص حالة الذكر الجهري، ظانين أن ما يفعلونه من الرقص حالة الذكر عبادة، مع أن من ظن ذلك تجب عليه التوبة فإن ناظر على ذلك وقال أنه عبادة يتقرب بها الله تعالى يخالف الإجماع فيكون عاصيا آثما إن لم يكن كافرا بناء على القول بتكفير مخالف الإجماع.
وكيف يعتقد من أودع الله فيه نور العقل أن الشطح وما شابهه مما يعبد الله به، مع تيقنه أن ذلك مجرد لهو ولعب.
متى علم الناس في ديننا *** بأن الغنا سنة تتبع
وأن يأكل المرء أكل الحما *** ر ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا سكرنا بحب الإلـــ *** ـه وما أسكر القوم إلا القصع
كذلك البهائم إن أشبعت *** يرقصها ريها والشبع
فيا للعقول ويا للنهى *** ألا منكر منكم للبدع
تهان مساجدنا بالسما *** ع وتكرم عن مثل ذلك البيع
ومما يزيد الطين بلة، والطنبور نغمة أنهم يخلون ذكر الله وقتئذ بإنشاد مدائح أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه سيد المتواضعين حتى لنفسه الشريفة، فقال: “لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، ولكن قولوا عبد الله ورسوله”، ولا تسأل عن تغاليهم في الاستغاثة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ لو سمعها مشركو قريش لنسبوهم إلى الكفر والزندقة والمروق من الدين، لأن أبلغ صيغة تلبية كانت لمشركي قريش هي قولهم: “لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك”، وهي كما ترى أخف شركا من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشادا بأصوات عالية مجتمعة، وقلوب محترقة خاشعة.”
هذا حال الزوايا على لسان عالم مغربي كان وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية وسفيرا بليبيا وأستاذا بدار الحديث الحسنية وعضوا بأكاديمية المملكة ورئيسا للمجلس العلمي بولاية الرباط وسلا، فهل تغير هذا الحال؟
الواقع أنه لم يزد إلا انحرافا، فكيف يطلب من السادة العلماء والخطباء والوعاظ أن يعمروا هاته المزارات إنها فعلا دعوة إلى إحياء القبورية من جديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناووس: على فاعول مقبرة النصارى.