حمدا للمولى على مكرماته التي وهبنا إياها، وإن من أكرمها على هذه الأمة وعلى نبيها صلى الله عليه وسلم، كلامه المنزل، قرآن يتلوه الأنام ليلا ونهارا، ويحيون أيامهم بكلامه سرا وجهارا، قرآن يحيي القلوب الميتة، ويسمو بالقلوب المتلهفة ويعرج بها إلى السماوات العلى، قرآن يخشع القلوب الزكية، ويروي الأفئدة الظمآنة، قرآن يجعل العيون باكية، والجوارح مقشعرة خاضعة، إنه كلام رب العباد، يفرحون بتلاوته، ويهرعون لتدبر آياته، ويمتحون من معين قصصه ومعانيه، ويسمعون أوامره، ويجتنبون نواهيه..
في رمضان شهر القرآن، حيث النسائم الإيمانية تعطر الأجواء، واللحظات الإحسانية تملأ أركان المساجد والمحاريب والصوامع والبيوتات، حيث المسلمون يتوجهون للمساجد ليعمروها بالذكر والعلم وختم المصاحف مرات ومرات، يُنعم الباري على المصلين بمواهبه على حفظة رزقهم صوتا حسنا يتغنون بالقرآن ترتيلا وتجويدا، ويحبرونه تحبيرا، فيرتقي العبد بقلبه إلى ملكوت السماوات، ويفرح السمع بكلام خالقه وكأنه لأول مرة يسمعه، فالقرآن لا يبلى ولا يخلق من كثرة الرد..
إنه شهر القرآن وشهر الخيرات وشهر النعم من المولى على عبيده، شهر البركات التي تعم العباد من سيدهم وخالقهم، شهر الإيمان والإحسان..، لا كما يصوره المخذولون المتنكرون للحقائق والمستمسكون بالصور الحادثة، الذين انقلب عندهم شهر الخير رمضان إلى شهر الصراع والنفور، والأنفس الحاقدة، وما ذاك.. إلا عند قوم ألزمهم الصيام الصلاح، ولضيق صدرهم عن الحق واتباع الهداية انتفضوا بأخلاق سيئة، فغلبت طباعهم الفجة هواء النقاء في هذا الشهر، وأبوا إلا أن يظهروا قبيح فعالهم، وهؤلاء لا يهذبهم رمضان، بل يعزرهم وازع السلطان، الذي استخلفه الله في الأرض ليقيم شرائع الرحمن..
لقد دوى صوت المآذن يرفع شعار بلاد الإسلام: الله أكبر.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح..، فامتلأت المساجد حتى فاضت بأهلها، يصلون خارجها، وصوت الإمام يتغنى بالقرآن، قد ملأ السماء إحسانا وبهجة..
وقد استمع لكلام الباري جل وعلا في هذه الأيام زوار حضروا المغرب من أجل المتعة والترويح، فلما أنصتوا لقراءة الإمام في صلاة التراويح، خالطت كلمات القرآن شغاف قلوبهم، وسويداء أفئدتهم، وربما لم يفهموا معاني كلماته لعجمتهم، لكنه كلام الخالق لمخلوقه، فأذعن القلب بعد السمع معلنا ومفتخرا بالانتساب لدين الله المرضي، آمرا اللسان أن يقول: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله”..
فقد سمعنا أن عددا من الأجانب أعلنوا إسلامهم في مساجد شتى من مساجد المغرب، في هذا الشهر المبارك الذي يشهد امتلاء عجيبا للمساجد (فاعمر المسجد يا عبد الله، تكن داعية للإسلام)، خصوصا مسجد الكتبية الذي يؤم الناس فيه القارئ عبد الرحيم النابلسي، ولقربه من نزل وفضاءات يتواجد فيها السياح بشكل كبير..، وهذا فعل حسن، أن تسمع غير المسلم كلام الله، فقد قال سبحانه: “وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ”، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الكافر المسجد حتى يسمع القرآن، ويرى المسلمين سجودا وركوعا للرب الجليل، كما في حديث ثمامة بن أثال الذي قيده الصحابة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبقي ثلاثة أيام كذلك، لا يبادله الحديث إلا كلمة رددها معه طوال ثلاثة أيام، وبعد ذلك أطلقه، فذهب ثمامة لنخل قريب، ثم اغتسل من درن الشرك، وعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه تعلوه بشارة الإيمان، فقال: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله”..، ورجع لبلده يدافع عن الإسلام ونبيه، بعدما خرج منها وهو يحاربهما.