خسر البيع عندنا يا أبا الدرداح.. عبد المغيث موحد

من عدل الربِّ وفضله أن قبل توبة المسيء عن جهالة، ذلك أن كثيرا من بني البشر يخرجون من أرحام أمهاتهم، ويشبون في مهد الحياة الدنيا محرومون من معرفة نور الحق، مغبونون من نعمة الاهتداء بنبراسه في ظلمات الجهل الطامسة، ظلمات وقب غاسقها بفعل صناع الإشاعات الرجراجة، والخرافات الخداعة التي تصنع في معامل البدع وحقول المحدثات بعمد وسوء نية، فما إن يطول عليها الأمد حتى تتحول إلى سنن هادية، وتنقلب إلى سير مرضية، يحوطها جيل راعن بكثير من التعصب الكالح، ويذود عن حياضها المتهتكة بهالة من اللغط والقداسة، وغشاوات سميكة من التعظيم والتجريم لمخالف كنه شيوعها المضعف لصيرورة نفاذها، وهؤلاء الرضع الذين حملهم العجب على الفطام المبكر ومخاصمة ثدي العلم الحلوب، حمّلهم العوام وأهل السياسة والمصالح الدنيوية ما لا يطيقون، وهم ما زالوا في مرحلة الحبو والمشي على أربع، فهل يطيق ظهر الصبا وركب الرضيع، حمل ما تنوء بحمله الجبال الراسيات؟
ولذلك كان من كمال حكمة الله وعزة قهره، أن يقع هؤلاء في شباك الخطأ وبراثن السقطات الفاضحة، عقابا لهم وابتلاء لأشياعهم، وتمييز الطيب الذي يدور مع الحق دعوة وعقيدة، والخبيث الذي يعبد الرسم ويغتر بفضله، ويعتقد كمال قدره، ويتعصب لمرجوحية رأيه.
وانظر أخي بالمقابل إلى حادثة ذهاب أمنا عائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم البريئة العفيفة الصالحة الفقيهة إلى البصرة قبل وقعة الجمل، حيث أتبعها أمير المؤمنين علي ابنه الحسن، والصحابي عمار بن ياسر، فكان من كلام عمار لأهل البصرة: والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم إياه تطيعون أم هي؟
فماذا كان جواب أهل البصرة لياسر يا ترى؟ وهل كان رد فعلهم من صنيع فعلنا حينما أفتى المتعالمون بجواز قرض الربا، واستحلال النسيئة، وحينما قال آخرون بجواز الاستمناء والاستعانة بالعازل الطبي في جريمة السفاح، واستعمال العضو التناسلي المطاطي للمحصنة في حضور البعل، ومسافحة المرأة البلاستيكية، وجواز شرب الخمر تلبية لغنج المرأة الحامل في نهار رمضان، واستحلال مص ثدي الغريبة تجويزا للخلوة مع الأجنية..، وتتناسل الفتاوى وتتوالد الدعوات ويسيل مداد الأقلام المأجورة، كما سال ويسيل لعاب أهل الإخلاد إلى بقل الأرض وفومها وفرشها ومغانيها ومراكبها البرية والبحرية الوثيرة، فتتلاقح هذه المشتبهات من زينة الحياة مع ضعف اليقين، وخسة النفس وغلبتها وميلها إلى استبدال الأدنى بالذي هو خير، فتحصل المشاكلة التي أنبأنا الله بخبرها، {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} “، فيخرج من رحم هذا الفصام النكد، خبء بعض النفوس المريضة المخبتة لسلطان الهوى، المنيبة للذة الجاه وذيوع الاسم والسمعة..
والتي عقدت النية، ثم أرجعت الكرة فجددتها بإصرار واستبشار على ما سلف، وقال لسان قبلها: طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يحقق مقاصدهم المدخونة معه قوة الحجة عليهم، وانتفاء زاد المعذرة من برهانهم، وجبِّ باب التوبة في صحائف أقدارهم، فيا للحسرة والندامة على كل مغبون في بيعه يوم القيامة! ويا للغرابة أن يكون أول من لبّى نداء مذكرة السيد الوزير، رجل لامست أردافه سجاد الجامعة الإسلامية ببلاد الحرمين الشريفين، فجاءنا يسعى من خلال برنامجه الإذاعي ليعلمنا الآداب غير الشرعية لزيارة الأضرحة والتمسح بجدرانها، ونحن إذ نجمل الرد عمدا ما دامت مادة العلم وماهية الحجة في جوف أخينا متخمرة، نذكره وهو الذي درس الأصول بقاعدة مفادها أن التأويل فرع التصحيح، لنطلب منه وبأدب الصغار أن يأتي بالدليل الشرعي الصحيح على جواز زيارة الأضرحة التي بنيت قبابها على قواعد التألّي على الله ومشيئته في خلقه، ثم له بعد التصحيح أن يتأوّل طولا وعرضا في مسألة الآداب بل الطقوس الشركية المردية.
وبعد الذكرى نحيله على بريد السرعة ليسمع كلام واحد من آبائنا الأشراف الذين نذروا حياتهم للحق، فحفظ الله ذكرهم في الأولين والآخرين، وخلّد في الباقيات أسماءهم مع الشهداء والصديقين: يقول الإمام ابن القيم في كتابه الماتع “حادي الأرواح”: “فيا عجبا من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها السماوات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكارا عربا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات، سيئات الأخلاق، مسافحات أو متخذات أخدان، وحور مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام، وأنهار من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان..، وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم وردا”.
فكم باع أسلافنا من غال ونفيس في سبيل ما وعدهم به رب الأرباب، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فربح بيعهم، وربت تجارتهم، وكم باع الخلق من أرض، وعرض، ودين، وأمانة، ومروءة من أجل سراب، يحسبونه شراب وهو عين العذاب، ويحسبون ظلمهم هينا وهو عند الله عظيم؟
فاللهم سلم.. اللهم سلم..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *