“معجزات الأنبياء وهي الآيات والبينات والبراهين على صدقهم، وكرامات الأولياء كلها من خوارق العادات، وكل الخوارق يرجع إلى نوع القدرة والتأثير، أو العلم، أو الغنى.
فالخوارق تتنوع بحسب هذه المعاني، فمعجزات الأنبياء منها ما يكون علمياً، ومنها ما يكون من قبيل القدرة، ومنها ما يكون من قبيل الغنى، وهكذا كرامات الأولياء.
وقول القائل: (ما صح أن يكون معجزة لنبي صح أن يكون خارقاً لولي)، معناه: أن ما كان معجزة للنبي إن حصل مثله للولي فهو كرامة، وليس المقصود أن كل معجزة من معجزات الأنبياء يكون مثلها للأولياء، لكن إن حصل للولي من الخوارق ما يشبه بعض معجزات النبي فهو في حقه كرامة، وما كان كرامة لولي فإنه معجزة للنبي الذي يتبعه هذا الولي؛ لأنه إنما حصل له هذا الخارق بسبب اتباعه، فتكون الكرامة حجة على صحة الدين الذي هو عليه، وبهذا يعلم أنه لا يلزم أن كل خارق حصل لنبي يكون مثله لأحد من الأولياء، فانشقاق القمر وعروج النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصل لغيره ولن يحصل.
وقد ذكر شيخ الإسلام بن تيمية أن خوارق الأنبياء لا يقدر على مثلها أحد من البشر، فلا بد أن تتميز خوارق الأنبياء على كرامات الأولياء”.
وللعلامة الصنعاني رحمه الله تعالى موقف حازم من هذه العبارة بينه في كتابه “الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف” بقوله:
“هذه دعوى لا دليل عليها، وقد نقل أقوامٌ عوامٌ كذبات لقومٍ من الصالحين تجاوزوا حد الإعجاز، كما في حلية أبي نعيم أنه قال قائل لأبي يزيد البسطامي بلغني أنك تمر في الهواء. قال: وأي أعجوبة في هذا! الطير يأكل الميتة ويمر في الهواء، والمؤمن أشرف من طير.
ولا يقول هذا عارفٌ؛ فإن الله تعالى جعل من آياته مرور الطير في جو السماء (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل:79] وقال تعالى: (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور:41] ونحوها من الآيات، ولا يعاب الطير بأنه يأكل من الميتة، بل هي رزقه، ولم تحرم عليه كما أنها حرمت الزكاة على الغني وأحلت للفقير، والله سبحانه لما أسرى برسوله صلى الله عليه وآله وسلم لم يطر في السماء، بل أرسل إليه البراق ثم صعد إليها على المعراج. فما هذا الكلام الفارغ الذي ينقلونه عن أبي يزيد، إن صح فهو من شطحات هؤلاء المتهوكة..
ولقد راجت هذه الدعاوى الفارغة على جماعة من علماء الإسلام صاروا كالعامة في قبول المحالات، فلقد ألف الحافظ السيوطي رسالة سماها: (المنجلي في تطورات الولي)، وأتى فيها بحكايات باطلة، وأقوال عن الأدلة عاطلة، حتى كأنه ما عرف السنة والكتاب، ولا ملأ الدنيا بمؤلفاته التي أتى فيها بكل عجاب، فلا يغتر الناظر بنقل ما يخالف السنة والكتاب، وإن حكاه من العلماء بحرُ علمٍ عبابِ..
وما أحسن ما قاله ابنُ الجوزي في كتابه صيد الخاطر قال: (واعلم أن اَلمحقق لا يهوله اسمٌ معظمٌ، كما قال رجل لعلي رضي الله عنه: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له علي: (إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) ولعمري إنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيءٌ فسمعه الجاهلُ بالشرع قبله لتعظيمهم في نفسه.
كما ينقل عن أبي يزيد أنه قال: (تراعنت عليّ نفسي فحلفت أنْ لا أشرب الماء سنة).
وهذا إذا صح عنه كان خطئاً قبيحاً، وزلةً فاحشةً، لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن، ولا يقوم مقامه شيء، وإذا لم يشرب فقد سعى في أذية بدنه، وقد كان يُستعذب الماءُ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له، وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن من مالكها، وكذلك ينقلون عن بعض الصوفية أنه قال: (سرت إلى مكة على طريق التوكل حافياً فكانت الشوكة تدخل في رجلي فأحكها بالأرض ولا أرفعها، وكان علي مسحٌ، فكانت عيني إذا آلمتني أدلكها بالمسح، فذهبت إحدى عيني). وأمثال هذا كثيرٌ، وربما حملها القصاص على الكرامات وعظموها عند العوام فتخايل لهم أن فاعل هذا أعلى مرتبة من الشافعي وأحمد.
ولعمري إن هذا من أعظم الذنوب وأقبح العيوب، فإن الله تعالى قال: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء:29]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً)، (وقد طلب أبو بكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة ظلاً حتى رأى صخرة ففرش له في ظلها)..
وكم ينقلون أن أقواماً مشوا على الماء، وقد قال إبراهيم الحربي: (لا يصح أن أحداً يمشي على الماء قط).
فإذا سمعوا هذا قالوا تنكرون كرامات الأولياء فنقول: لا ننكرها؛ بل نتبع ما صح، والصالحون هم الذين يتبعون الشرع ولا يتعبدون بآرائهم.
ثم قال رحمه الله تعالى: (واسمع مني بلا محاباة: لا تحتجن علي بأسماء الرجال، وتقول قد قال إبراهيم بن أدهم، قد قال بشر الحافي.. من احتج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبأصحابه رضي الله عنهم أقوى حجة)..اهـ.