نصوص الدين؛ قراءة جديدة أم تلاعب وعبث؟؟ (نماذج من القراءات العابثة) حمّاد القباج

(قراءة النص) مصطلح حادث يراد به استخراج معاني ألفاظه وبيان مدلولاتها، وهو قريب من معنى لفظ (التأويل) المراد به هنا نوع من أنواع (التفسير).

وقد شاع في كتابات العلمانيين التعبير بـ: “النص” عن الآيات والأحاديث كخطوة نحو رفع قدسيتها وإخضاعها للنقد كغيرها من النصوص الأدبية والنظريات العلمية، جريا على سنة طه حسين الذي رضعها من ثدي مكرة المستشرقين:
اسمع إليه وهو يقول عن المستشرق “كازانوفا”: “الرجل أقدر على فهم القرآن وأمهر في تفسيره من هؤلاء الذين يحتكرون علم القرآن ويرون أنهم خزنته وأصحاب الحق في تأويله.. لأنه (كازانوفا) يخضع نصوص القرآن للبحث كما تخضع المادة للعلماء يتناولونها في معاملهم”!!! اهـ.
فنصوص القرآن والسنة عبارة عن ألفاظ ذات معاني يرفض بعضها العلمانيون لأنها تلزمهم بما لا يهوون، فمنهم من يرد الألفاظ ابتداء ولا يؤمن بقدسيتها، وهذا هو الكافر، أي الجاحد لكونها من عند الخالق جل وعلا.
ومنهم من يقبل الألفاظ -حقيقة أو نفاقا-، ولا يقبل المعاني التي لا تتماشى مع أهواءه والتي تتمظهر في كثير من الأحيان بمظهر العصرنة ومواكبة التطور البشري، وقد تتضخم هذه الشبهة في عقل البعض إلى درجة تجعله أقرب إلى رفض “النص” ورده منه إلى تأويله وتفسيره.
ومن هنا جاءت الدعوة إلى إعادة قراءة “النص” قراءة جديدة، أي إعطائه معنى آخر، أو حصر معناه في ظرفية معينة.
وإذا كان الباطنية قديما قد سلكوا مسلك (التأويل المتلاعب) لإبطال الشريعة، فإن العلمانيين والعصرانيين اليوم يسلكون مسلك (القراءة الجديدة للنص) لإبطال ما تبقى من أحكامها في القانون المغربي!
وقد توخيت في هذه المقالة ذكر نماذج لهذا الانحراف الفكري الذي صارت له مدرسة يتخرج منها الجناة على النصوص الشرعية، مع تفاوت درجاتهم ومشاربهم؛ فمنهم الجاحد للوحي المتستر بالبحث العلمي، ومنهم العلماني الرافض لتحكيم النصوص في الواقع، ومنهم -أحيانا- الداعية المتساهل أو العالم الذي زلت قدمه ومال فكره إلى القراءات (التأويلات) المتعسفة للنص، تحت ضغط وإكراه الواقع المنحرف وهيمنة التصور العلماني المادي للكون والحياة والإنسان.
وحتى لا يجنح بي القلم كثيرا إلى موضوع التأصيل والتقعيد؛ أنتقل إلى بيان نماذج من هذه القراءات العابثة.

قراءة عابثة لقول الله تعالى: “إن الدين عند الله الإسلام”
زعم أحدهم في برنامج بثته القناة الثانية أن هذه الآية لا تعني أن الله تعالى لا يقبل دينا غير الإسلام، بل اليهودية والنصرانية دينان مرضيان، والآية كقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الحج عرفة”، فحصر أركان الحج في عرفة مع أن له أركانا أخرى، قال: كذلك حصر الدين في الإسلام مع أن هناك أديان أخرى.
ولا أحب في هذه العجالة أن أبرز ما في هذا الكلام من جهل عريض بمعنى الإسلام ومسلمات عقيدته، ولكن أكتفي بتذكير صاحبه بآية تبطل تأويله المتعسف؛ وهي قول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران/85.

قراءة عابثة لقول الله تعالى: “لا إكراه في الدين”
حيث استدل بعض العلمانيين -ومنهم: سعيد لكحل في برنامج على القناة الثانية- بالآية على ضعف حديث: “من بدل دينه فاقتلوه” (البخاري)، ومن هنا أبطلوا حكما مجمعا على أصله؛ ألا وهو: حد المرتد.
وقد خلط أصحاب هذا الفهم بين دلالتين شرعيتين:
1- أنه لا يجبر أحد على الإسلام كما دلت على ذلك الآية.
2- أنه يحرم الارتداد عن الإسلام كما دل على ذلك الحديث.
فالإسلام لا يكره أحدا على اعتناقه، لكنه يحرم عليه الكفر بعد الإيمان، لأنه خيانة للعهد، وفتح لباب العبث بالدين، وهو أعظم الضروريات التي جاء الإسلام لحفظها.
وأقول لأصحاب تلك القراءة التعسفية: هل تقبلون بفتح باب التبرؤ من الوطن والانسلاخ من الولاء له؟ وما هي العلة التي جعلت القانون يعاقب على ذلك بأشد العقوبات؟ كما أن القانون العسكري يعاقب بالقتل من خان الجيش فخرج منه إلى غيره؛ فأيهما أولى بتحريم الخروج عنه والتبرؤ منه؛ دين الله الذي رضيه لعباده، أم وطن وجيش؟! وقد علم أن الولاء لهما تابع للولاء للدين.

قراءة عابثة لقول الله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران/130]
فقد ذهب البعض -ومنهم الدكتور محمد الجابري- إلى القول بإباحة الربا الذي استفاضت النصوص بتحريمه وعده من الكبائر؛ واستند كثير منهم إلى الآية المذكورة؛ فزعم أنها تدل بمفهوم الصفة أنه لا يحرم من الربا إلا ما كان ربحه مركبا، وهذا خلاف الإجماع.
ومكمن الشبهة في الخلط بين “دلالة المفهوم” و”حكاية الواقع”؛ وشرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرَى لحكاية الواقع.

قراءة عابثة لقول الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء/129]
وهو نص قرآني حرف العلمانيون معناه ليستدلوا به على تحريم التعدد! وقالوا: العدل شرط لجواز التعدد، وقد نفى الله استطاعته، فهو غير جائز!!
وهذا شبيه باستدلال من احتج لتحريم الصلاة بقول الله تعالى: {فويل للمصلين}؛ إذ تمام الآية يبين المراد:
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}.
فالعدل المنفي؛ هو العدل في المحبة القلبية، والعدل المأمور به هو العدل المادي.

قراءة عابثة لقول الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور/31]
نقلتها جريدة الأحداث المغربية في عددها رقم 1618 عن متلاعب فسر الجيوب بأنها ما بين الثديين وما تحت الإبطين والفرج والإليتين!!!
قال: “فهذه هي الجيوب التي يجب على المؤمنة أن تغطيها”!
والجيوب جمع جيب؛ وهو فتحة القميص كما في التفاسير وكتب اللغة، ولم يقل عالم واحد بذلك المعنى المغرق في الغرابة والعبثية.

قراءة عابثة لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب/59]
فقد ذهب جمع من المفسرين إلى أن الآية تدل على اختصاص الحجاب بالحرائر دون الإماء، وهذه كما قال ابن حزم: “إما زلة عالم أو وهلة فاضل عاقل أو افتراء كاذب فاسق”. (المحلى 3/218).
وأسوأ من ذلك قول صاحب كتاب (المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير ص: 274): “واليوم وقد تغير وضع المرأة الاجتماعي، وأصبحت تباشر أعمالا كثيرة في الإدارة والمصانع والمتاجر والحقول، وتسوق الطائرات، وتعمل في الصحافة، بل وانخرطت حتى في صفوف الجندية، ودخلت في المنافسات الرياضية الدولية، أصبح لزاما على فقهائنا أن يقدروا الضرورات بقدرها، وأن يرفعوا الحرج عن المرأة مثلما رفعه الشرع الحكيم عن الإماء، وأن يقيسوا حال المرأة العالمة في عصرنا على حال المرأة الأَمَة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ويعطوها حكمها”!!
وما ظنك بحكم فرعي بني على قياس فاسد الأصل، مهزوز العلة؟!!

قراءة عابثة لقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة/71]
وقد سمعتها من أحدهم في برنامج بثته القناة الثانية أيضا، حيث استدل بالآية على وجوب المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، بما في ذلك: المساواة في الميراث! وهو مطلب علماني تجددت الدعوة إليه هذه الأيام في خرق سافر لقطعية قرآنية ومسلمة فقهية.
..إن هذا العبث بالنصوص الدينية يزيد الأمة فرقة وتنازعا، وإذا كان علماؤنا قد قرروا أنه لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف، فإننا نؤكد هنا أنه لو احترمنا التخصصات وجعلنا الخطاب الديني مصونا من تلاعب العلمانيين وأشباههم، ومحصورا في المتأهلين من الدعاة والوعاظ والعلماء والمجتهدين كل بحسب علمه ومجاله، لسلمت نصوصنا المقدسة من هذا العبث الذي سمي: (قراءة جديدة لنصوص الدين)، وسلمت مقروءاتنا من كثير من السجالات الفكرية التي تشوش على الأفهام، وتصد الناس عن هداية القرآن..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *