توجيهات تربوية بين يدي قاصد الحج

إذا توفَّرت الاستطاعة في الحجِّ، وعَزَم الحاجُّ على أداء هذه العبادة الجليلة فإنَّه يحسُن في هذا المقام أن يُقَدَّم بين يديه توجيهات تربوية تسبق رحلته العظيمة إلى بلد الله الحرام، استجابةً لأمره تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾.

وتتعلَّق هذه التوجيهات بمجموعة من الآدابٍ الشرعية وهي كالآتي:
• أولا: أن يتعلَّمَ الحاجُّ أحكامَ المناسك، وما يجب عليه فعله وما يُستحَبُّ ممَّا يجب عليه تجنُّبه وما يُستحبُّ له تركه، وعليه أن يدقِّقَ في سؤال أهل العلم لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:7]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلاَ سَأَلُوا إذْ لَـمْ يَعْلَمُوا، إنَّمَا شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ»صحيح سنن أبي داود.
كما يجب عليه أن يعرف بِدَعَ الحجِّ والعمرة والزيارة ليتجنَّبَها ويحذرَ منها، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ، عَلَيْكُمْ بِالأَمْرِ العَتِيقِ»، كلُّ ذلك ليقع عمله خالصًا من شوائب الشِّرك موافقًا للسُّنَّة الصحيحة غير مخالف لها.
• ثانيا: أن يجتهد في الخروج من مظالم الخلق بالتحلُّل منها أو ردِّها إلى أصحابها، أو باسترضاء كلِّ من قصَّر في حقوقهم؛ لأنَّ السَّفر مظِنَّةُ الهلاك، فيجتهد في قضاء ما أمكنه من ديونه؛ لأنَّ حقَّ العبد لا يسقط إلاَّ برد حقِّه أو عفوه عنه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْ مِنْهُ اليَوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» رواه البخاري.
• ثالثًا: أن يكتب وصيةً يذكر فيها ما له وما عليه، ويستعجل بها، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِي فِيهِ إِلاَّ وَوَصِيَتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ» رواه مسلم.
• رابعا: أن يترك لأهله وأولاده ومن تجب النفقة عليه لوازمَ العيش وضرورياتِ المؤن طيلةَ مُدَّة غيابه في سفره، مع حثِّهم على التمسُّك بالدِّيـن وأخلاقه وآدابه، والمحافظة على الصلاة؛ لأنه الراعي المسئول عن أهله وأولاده، والمكلَّفُ بالحفظ والصيانة المالية والدينية والخلقية وغيرها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَتِهِ» متفق عليه.
• خامسا: أن يُعِدَّ زادَه من الحلال الطيِّب، ويحرصَ على تخليصه من شوائب الحرام ومشتبهاته، مبعدًا كلَّ أنواع أكل أموال الناس بالباطل ليكون أقرب إلى الاستجابة وأدعى للقَبول، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ فَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون:51]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 57]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟» رواه مسلم
• سادسا: أن يتزوَّد لسفره بالتقوى والعمل الصالح، والالتزام بالآداب الشرعية، وأخذ ما يكفيه لحوائجه وما يغنيه عن أذى الناس بسؤالهم، فإنَّ ترك السؤال من التقوى، لقوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
• سابعا: أن يحرص على تحصيل الرفقة الصالحة الدالَّةِ على الخير والمرغِّبة فيه والمُعينة عليه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌ» صحيح الجامع.
• تاسعا: أن يحرص على الأذكار الصحيحة في سفره هذا، كما يحرص على مراعاة الآداب والأذكار والأدعية الواردة في أعمال العمرة والحج، فإن فرغ من عمرته أو حَجِّه وأدَّى زيارته وقضى حاجته فعليه أن يعجِّل الرجوع إلى أهله وبلده لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ» متفق عليه.
قال ابن حجر رحمه الله: «وفي الحديث كراهة التغرب على الأهل لغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع، ولا سيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات والقوة على العبادة» فتح الباري لابن حجر 3/623.
• عاشرا: أن يتَّصل بأهله بوسائل الاتصال حتى لا يفاجئهم بمقدمه عليهم، لحديث جابر رضي الله عنه قـال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا» متفق عليه
وفي حديث له رضي الله عنه مرفوعًا: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمْ الغَيْبَةَ فَلاَ يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلاً» أخرجه البخاري، والمراد بالطروق هو المجيء من سفرٍ أو من غيره على غفلة، إذ قد يجد أهله على غير أهبة من التنظُّف والتزيُّن المطلوبين من المرأة فيكون ذلك سبب النفرة بينهما (انظر: فتح الباري لابن حجر 9/340).
فهذه خلاصة التوجيهات التربوية وزبدتها، أملاً أن يسلك بها الحاجُّ سبيلَ المتقين، ويسيرَ على درب الصالحين من التخلُّص من الذنوب والمعاصي بالتوبة والاستغفار وردِّ المظالم، والتزوُّد بالتقوى والعمل الصالح، ومجاهدة النفس عن السوء والهوى بالتزام أحكام الشرع والتحلِّي بأخلاقه وآدابه ومحاسبتها، خوفًا من مقام ربه عز وجل.
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *