لقد حفظ الله عز وجل لهذه الأمة دينها، فتلقاه خلفها عن سلفها بالأسانيد الصحيحة المتصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اعتنت هذه الأمة بالإسناد في تحمل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأدائها ما لم تعتن به غيرها من الأمم مع نبيها، بل هو خاصية من خصائصها المميزة لها عن غيرها من الأمم؛ فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تَسمعون ويُسمع منكم، ويُسمع ممن يَسمع منكم” رواه أبو داود.
وقال أبو عمرو بن الصلاح: “أصل الإسناد أولاً خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة” [مقدمة ابن الصلاح، ص:215].
ولهذا اهتم السلف عامة والمحدثون منهم على وجه الخصوص بأمر الإسناد وبينوا أهميته.
روى مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين قال: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”.
وروى فيها أيضا عنه أنه قال: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”.
وأخرج ابن حبان في مقدمة كتاب المجروحين عن سفيان الثوري قال: “الإسناد سلاح المؤمن، إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟”
وفيه أيضا عن شعبة قال: “كل حديث ليس فيه (حدثنا) و(أخبرنا) فهو مثل الرجل معه البعير ليس له خطام”.
ولقد بدأ السؤال عن السند في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، فقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى -الأشعري- كأنه مذعور فقال: استأذنتُ على عمر ثلاثا فلم يُؤذن لي، فرجعت فقال: ما منعك قلت: استأذنت ثلاثا فلم يُؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يُؤذن له فليرجع).
فقال -أي عمر-: والله لتُقِيمن عليه ببينة.
أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟
فقال أُبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغرُ القوم. فكنت أصغرَ القوم فقمت معه فأخبرت عمرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك”.
قال الحافظ في الفتح: فقد جاء في بعض طرقه أن عمر قال لأبي موسى: “أما إني لم أتهمك، ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ولما وقعت فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه بدأ ظهور البدع وظهرت بوادر وضع الحديث فشددوا في قبول الأحاديث وزاد التأكيد على أهمية الإسناد؛ روى مسلم في مقدمة الصحيح، عن ابن سيرين قال: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”.
ومن الأمثلة العملية عن المطالبة بالإسناد والحرص عليه بعد الفتنة، ما رواه الحاكم في “معرفة علوم الحديث” عن عتبة بن أبي حكيم أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة وعنده الزهري، قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة، ما أجرأك على الله، ألا تُسْنِدُ حديثك؟ تُحدثنا بأحاديث ليس لها خُطُمٌ ولا أزمة!”.
وروى مسلم في مقدمة صحيحه عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه.
فقال: يا ابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟
فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف”.
وهذا الأمر اختص به أهل السنة عن غيرهم من أهل البدع، قال شيخ الإسلام: “وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله سلماً إلى الدراية، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأئمة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنّة أهل الإسلام والسنة يفرقون به بين الصحيح والسقيم والمعوج والمقيم. وغيرهم من أهل البدع والكفار، إنما عندهم نقولات يأثرونها بغير إسناد وعليها من دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل ولا الحالي من العاطل” [مجموع الفتاوى 1/9].
وثمرة النظر في السند هي التوصل إلى صحة ما يُنقل من أدلة السنة، فأهل السنة في كل زمان إذا رووا الحديث، فإنهم يصدرونه بسنده أو يعزونه لمصدره، ولا يستدلون إلا بما صح منه. أما غيرهم من الفرق فإنهم يحدثون بكل ما يوافق أهواءهم وبدعهم غير مهتمين صحة السند ولا لضعفه، ولا لثبوت الخبر من عدمه، ومن نظر في كتب أهل البدع وجدها موسوعة كبيرة للأحاديث الضعيفة والموضوعة، ينشرونها في الناس وينسبونها للنبي صلى الله علي وسلم غير آبهين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”. والله المستعان.