وقفات مع كتاب التعالم -إجمال الحال في الحياة المعاصر- إعداد: عابد عبد المنعم

في الحلقة الماضية ذكر صاحب كتاب التعالم -رحمه الله- أن اندلاع قضية التعالم في الوجود -لا سيما في صفوف المسلمين- رمز للعدول عن الصراط المستقيم، وأضواء التنزيل، ووسيلة القول على الله العزيز الحكيم، وأن ظواهر الأحوال من رقة في الديانة، ووهن في الإستقامة، وضعف في التحصيل، والسعي بكل جد وراء الدنيا الزائلة، ومظاهرها الفانية، شكلت أمامنا ظاهرة التعالم أوسع من ذي قبل، لما نشاهده من واقعاتها الفجة، والدعاوى العريضة، والبراعة في الانتحال، واتساع الخطوة إلى المحال..

ثم قال الشيخ الدكتور: وما هذا إلا لتسنم(1) العلم أغمار(2) ركبوا له الصعب والذلول(3)، وظنوا أن العلم ينال بالراحة ولمَّا يلمؤا منه الراحة، فتهافتوا على مناصب العلم في الفتيا والتأليف والنشر والتحقيق، وصاروا كتماثيل مسدودة بأيديهم هراوي يضربون في عقول الأمة حينا، وفي ثراتها أحيانا، مكدرين -وحسابهم على الله- صفوَ الأمة في دينها وفي علمها. وهل العلم والدين إلا توأمان لا ينسلخان إلا في حساب من انسلخ منهما؟
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)..
ومن حديث أبي أمية الجمحي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر” رواه الطبراني، أنظر الصحيحة 695.
وأيضا في أحاديث الملاحم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، وفيه بيان “أن من أشراط الساعة أن يظهر القلم” رواه أحمد والبزار والطحاوي والطبراني وغيرهم، وليس في ذكر القلم وقد فشى القلم وانتشر، وهذا من معجزات النبوة.
وقال الشافعي رحمه الله: “إذا تصدر(4) الحدث فاته علم كثير” اهـ.
ولبعضهم:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها الخللا
وقال القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي:
متى تصل العطاش إلى ارتواء *** إذا استقت البحـار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مـراد *** وقد جلس الأكابـر في الزوايا
وإنَّ ترفـع الوضعـاء يومـا  *** على الرفعاء من إحدى البلايا
إذا استوت الأسـافل والأعالي ***  فقد طابـت منادمـة المنايـا

من أسباب التجنس الفكري وضعف التحصيل
ومن هنا إلى نتيجة مهمة، وهي أن التجنس الفكري من انحرافات في المفاهيم والأخلاق، والتموجات(5) في الاعتقاد، إنما يبلغ مبلغها في الأمة وفي عقول نشئها بسبب تأخر العلماء عن أداء مهمة البلاغ، وتغذية العقول بالعلم النافع تحصينا لها من أي مؤثر عليها، وهذه هي الوظيفة الرئيسة لأهل العلم والإيمان، ولهذا فإن المتخلف عن أداء واجب وظيفته هذه، يحمل من الإثم بقدر تخلفه.
ويمكن إجمال الأسباب على مايلي:
1- قعود المتأهلين عن البلاغ ونزول ساحة المعاصرة.
2- ضعف الإمداد السليم.
3- ضعف الإلتفات على تلمس العلل وعلاجها.
4- استشراء داء حب الشهرة لغياب قوة الإيمان.
5- انفصام عروة الاتصال بين الطالب وكتب السلف، إذ أن التلقي صار بالمذكرات، والمؤلفات الحديثة.
6- قلب لغة العلم في المصطلحات بما لا يتواطأ مع لغة العلم لكتب السلف.
فهذه غصص(6) مولدة(7) للأوجاع المذكورة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظُ علم الدين وتبليغه، فإذا لم يبلغِّوهم علمَ الدين أو ضيَّعوا حِفظَه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين.
ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}.
فإنَّ ضررَ كتمانهم تعدَّى إلى البهائم وغيرها، فلعنَهم اللاعنون حتى البهائم”. اهـ
وبعد فحرام والله ثم حرام على من لا يهتدي لدلالة آي القرآن، ولا يدري السنن والآثار، أن يتسنم بجناب العلم ويحل في حرمه معول هدمٍ لحماه، وخرق لسياجه وحرمته، وهذا هو المعثر المخذول، علمه وبال، وسعيه ضلال، نعوذ بالله من الشقاء. اهـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- تسنم: يقال: تسنم البعير إذا علاه وركبه.
2- أغمار: جمع غمر وهو الصغير الذي لم يجرب الأمور.
3- الذلول: السهل المعبَّد.
4- تصدر الحدث: أي قعد للتدريس.
5- التموجات: الاضرابات.
6- غصص: جمع غصَّة، وغصَّ بالماء وقف في حلقه فلم يكد يسيغه.
7- مولِّدة: مثيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *