وقفات مع كتاب التعالم تعالم بعض المتنسبين لخدمة السنة المشرفة إعداد: عابد عبد المنعم

قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى متمِّما بيان تعالم بعض المنتسبين لخدمة السنة المشرفة وأنواعه المتعددة: ولا تستكثر مقالي هذا فهو امتداد لشكوى عن أئمة مضوا كابن فارس والذهبي والسخاوي وغيرهم، أنى لنا اللحوق في ركابهم..

قال محمد بن يوسف الفريابي: كنت أمشي مع ابن عيينة، فقال لي: يا محمد، ما يزهدني فيك إلا طلب الحديث.
قلت: فأنت يا أبا محمد، أي شئ كنت تعمل إلا طلب الحديث؟ فقال: كنت إذ ذاك صبيا لا أعقل.
قال الذهبي رحمه الله تعالى بعد هذا: قلت: إذا كان مثل هذا الإمام يقول هذه المقالة في زمن التابعين، أو بعدهم بيسير، وطلب الحديث مضبوط بالاتفاق، والأخذ عن الاثبات الأئمة، فكيف لو رأى سفيان رحمه الله طلبة الحديث في وقتنا، وما هم عليه من الهنات والتخبيط، والأخذ عن جهلة بني آدم، وتسميع ابن شهر.
أما الخيام فإنها كخيامهم * وأرى نساء الحي غير نسائها
وفي ترجمة إسحاق بن راهويه قال أبو عبد الله الحاكم: “إسحاق، وابن المبارك، ومحمد بن يحيى هؤلاء دفنوا كتبهم” اهـ.
قال الذهبي رحمه الله تعالى بعده: هذا فعله عدة من الأئمة، وهو دال أنهم لا يرون نقل العلم وجادة(1)، فإن الخط قد يتصحف على الناقل، ويمكن أن يزاد في الخط حرف فيغير المعنى، ونحو ذلك.
وأما اليوم فقد اتسع الخرق(2)، وقل تحصيل العلم من أفواه الرجال، بل ومن الكتب غير المغلوطة، وبعض النقلة للمسائل قد لا يحسن أن يتهجى.اهـ
قال عثمان بن سعيد الدارمي المتوفي 280هـ رحمه الله تعالى: من لم يجمع حديث شعبة وسفيان ومالك وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة، فهو مفلس في الحديث -يريد أنه ما بلغ درجة الحفاظ-.اهـ
قال الذهبي بعده: وبلا ريب، أن من جمع علم هؤلاء الخمسة، وأحاط بسائر حديثهم، وكتبه عاليا ونازلا، وفهِم علله، فقد أحاط بشطر السنة النبوية، بل بأكثر من ذلك، وقد عدم في زماننا من ينهض بهذا، وببعضه فنسأل الله المغفرة. اهـ
وأيضا لو أراد أحد أن يتتبع حديث الثوري وحده، ويكتبه بأسانيد نفسه على طولها، ويبين صحيحه من سقيمه، لكان يجئ مسنده في عشر مجلدات، وإنما شأن المحدث اليوم الاعتناء بالدواوين الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي، وضبط متونها وأسانيدها، ثم لا ينتفع بذلك حتى يتقي ربه، ويدين بالحديث، فعلى علم الحديث وعلمائه ليبك من كان باكيا، فقد عاد الإسلام المحض غريبا كما بدأ، فليَسْع امرؤ في فكاك رقبته من النار، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم العلم ليس هو بكثرة الرواية، ولكنه نور يقذفه الله في القلب، وشرطه الاتباع، والفرار من الهوى والابتداع, وفقنا الله وإياكم لطاعته.اهـ
قال الخطيب البغدادي في فاتحة كتابه الجامع: وقد رأيت خلقا من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويعدّون أنفسهم من أهله المتخصصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يدعون، وأقلهم معرفة بما إليه ينتسبون، يرى الواحد منهم إذا كتب عددا قليلا من الأجزاء، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر، أنه صاحب حديث على الإطلاق، ولما يجهد نفسه ويتعبها في طلابه، ولا لحقته مشقة الحفظ لصنوفه وأبوابه.
وهم مع قلة كتبهم له، وعدم معرفتهم به أعظم الناس كبرا، وأشد الخلق تيها وعجبا، لا يراعون لشيخ حرمة، ولا يوجبون لطالب ذمة، يخرقون بالراوين(3)، ويعنفون على المتعلمين خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه..اهـ.
قال السخاوي رحمه الله تعالى نقلا عن بعض أئمة الحديث بعد بيان رسم المحدث الذي يستحق وظائف المدارس الحديثية تطبيقا لشرط واقفها: “وأما إذا كان على رأسه طيلسان(4) وفيه رجليه نَبْلان، وصحب أميرا من أمراء الزمان، أو من تحلى بالؤلؤ والمرجان، أو بثياب ذات ألوان، فحصل تدريس حديث بالإفك والبهتان، وجعل نفسه لعبة للصبيان، لا يفهم ما يقرأ عليه من جزء ولا ديوان، فهذا لا يطلق عليه اسم محدث بل ولا إنسان، وإنه مع الجهالة آكل حرام، فإن استحله خرج من دين الإسلام, والظاهر أنها نفثة مصدور(5)، ورمية معذور، بها يتسلى القائم في هذا الزمان بتحقيق هذا الشأن مع قلة الأعوان وكثرة الحسد والخذلان، والله المستعان وعليه التكلان”. اهـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- الوجادة: مصدر من وجد وهذا المصدر مولد غير مسموع عن العرب وهي طريقة من طرق تحمل الحديث الشريف,وصورتها: أن يجد حديثاً أو كتاباً بخط شخص بإسناده. فله أن يرويه عنه على سبيل الحكاية، فيقول: ” وجدت بخط فلان: حدثنا فلان ” ويسنده. ويقع هذا أكثر في مسند الإمام أحمد، يقول ابه عبد الله: ” وجدت بخط أبي: حدثنا فلان ” ، ويسوق الحديث.
2- الخرق: الجهل.
3- يخرقون بالراوين: يجهلون عليهم.
4- طيلسان: ضرب من الأوشحة تلبس على الكتف أو يحيط بالبدن، خال من التفصيل والحياكة وهو من لبس الأعاجم.
5- نفثة مصدور: ما يخفف به عن صدره ويروح به عن نفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *