تطرقت في المقال السابق إلى حكم بناء المراحيض فوق المساجد، ونقلت أقوال المذاهب الأربعة بالمنع لاعتبارهم هواء المسجد وسطحه من المسجد، لكنه أشكل على بعض الناس أننا نرى مساجد كثيرة في الأحياءوفي العمائر، يصلي فيها الناس وفوقها بيوت ومساكن، فما حكم هذه المساجد؟
إليك أخي القارئ أقوال العلماء من أصحاب المذاهب الأربعة في هذه المسألة، بدء بمذهب إمام دار الهجرة:
1. المذهب المالكي:
لا يجيز الإمام مالك بناء مسكن فوق المسجد بعد تحبيسه.
قال مالك: وهذا الذي يبني فوق المسجد يريد أن يجعله مسكنا يسكن فيه بأهله يريد بذلك مالك أنه إذا كان بيتا، وسكنه صار فيه مع أهله، فصار يطؤها على ظهر المسجد، قال: كرهه مالك كراهية شديدة” .
وقد حمل المالكية هذه الكراهة على التحريم إذا كان بناء المسكن متأخرا عن المسجد؛ وأما إذا كان السكن متقدما على المسجد، أي: أن المسجد وقف بعد اتخاذ مسكن فوقه، فإنه قد اختلفت أقوال المالكية فيمن كانت له دار لها علو وسفل، فأراد أن يحبس السفل مسجدا، ويبقي العلو على ملكه، فمنهم من منع ذلك، وأجازهالمحققون من المالكيةمع كراهة التنزيه.
• قال الخرشي: في قول الشيخ خليل: (كمنزل تحته ومنع عكسه): التشبيه في الجواز والمعنى أنه يجوز للإنسان أن يتخذ له بيتا تحت المسجد ولا يجوز له أن يتخذ بيتا فوقه؛ لأن ما فوق المسجد له حرمة المسجد وهذا في مسجد أعلاه متأخر عن مسجديته بأن بنى مسجدا ابتداء ثم أحدثت السكنى فوقه وما مرَّ في باب الإجارة في قوله (وسكنى فوقه) في أنه مكروه في مسجد أعلاه سابق على مسجديته” .
وقد وفق الحطاب بين القولين مثل توفيق الخرشي، فقال:
“وتحقيق المسألة: أن المسجد لله إذا بناه الشخص له وحيز عنه فلا ينبغي أن يختلف في أنه لا يجوز له البناء فوقه” .
وأما إن كانت له دار لها علو وسفل، فأراد أن يحبس السفل مسجدا، ويبقي العلو على ملكه، فقد وفق الحطاب بين الأقوال في المذهب بحملها على الجواز مع الكراهة .
يتلخص مما سبق أنه لا خلاف في المذهب في المنع من البناء فوق مسجد بعد تحبيسه والتخلية بينه وبين الناس، وأما إذا كان البناء سابقا على التحبيس، فإن الصحيح عند المحققين من المالكية هو الجواز. والله أعلم.
2. المذهب الحنفي:
لا يجوز كذلك عند الحنفية بناء بيت فوق المسجد إلا إذا كان ذلك ابتداء قبل التخلية بينه وبين الناس، أما إذا بنى مسجدا، وخلى بينه وبين الناس فلا يجوز له البناء فوقه.
قال الحصفكي: “لو بنى فوقه (يعني فوق المسجد) بيتا للإمام لا يضر؛ لأنه من المصالح، أما لو تمت المسجدية، ثم أراد البناء منع، ولو قال عنيت ذلك لم يصدق” .
وقال ابن عابدين: “وعبارة التارخانية: وإن كان حين بناه خلى بينه وبين الناس، ثم جاء بعد ذلك يبني لا يترك”اهـ .
وكذلك لا يجوز عند الحنفية اتخاذ بيت أو حانوت تحت المسجد إلا أن يكون جُعِلَ كذلك ابتداءً قبل أن تتم المسجدية، فلا فرق عندهم بين البناء فوق المسجد أوتحته .
3. المذهب الشافعي:
يظهر أن مذهب الشافعية لا يختلف عن المذهبين قبله في المنع من البناء فوق المسجد بعد المسجدية، ويدل على ذلك-كما تقدم في المقال السابق-أن لهواء المسجد وسطحه عندهم حكم المسجد، ويؤكد ذلك قول ابن حجر الهيتمي: “…من ذلك ما وقع السؤال عنه من أن خلوة بابها من داخل مسجد يعلوها بناء متصل ببيت مجاور للمسجد، فادعى صاحب البيت أن هذا البناء موضوع بحق وهو قديم وبه علامات تشعر بكونه من البيت، وادعى ناظر المسجد أن هذا بأعلى الخلوة من المسجد فكون باب الخلوة من المسجد يدل على أنها منه، ويدل لذلك ما قالوه من صحة الاعتكاف بها وحيث قضى بأنها للمسجد تبعها الهواء فلا يجوز البناء فيه، وكون الواقف وقف الخلوة دون ما يعلوها الأصل عدمه حتى لو فرض أن بأعلاها بناء هدم” .
فهذا الكلامصريح في كون الشافعية لا يرون مشروعية البناء فوق المسجد، بعد المسجدية، ومفهومه يدل على الجواز قبل المسجدية. والله أعلم.
4. المذهب الحنبلي:
لا يرى الحنابلة مشروعية البناء فوق المسجد بعد المسجدية، باعتبار أن ما فوق المسجد من المسجد.هذا بعد المسجدية، أي بعد تحبيس المسجد والتخلية بينه وبين الناس، وأما قبل المسجدية فقد اختلفت الرواية في المذهب الحنبلي في حكم من عنده بيت فأراد أن يجعل سفله مسجدا، هل له أن ينتفع بسطحه أم لا؟
وأما لو جعل علو منزله مسجدا فلا خلاف عندهم في جواز الانتفاع بأسفله.
قال البهوتي في شرح الإقناع: “(وإن جعل سفل بيته) مسجدا صح وانتفع بعلوه (أو) (جعل علوه مسجدا صح وانتفع بالآخر) فيما شاء قدمه في الرعاية.وقال في المستوعب: إن جعل سفل بيته مسجدا لم ينتفع بسطحه وإن جعل علوه مسجدا انتفع بسفله نص عليه قال أحمد: لأن السطح لا يحتاج إلى سفل” .
وقال في شرح منتهى الإرادات:”وعلى الأول -يعني على القول بالجواز- يخرج ما يفعله كثير من واقفي المساجد من البيوت. التي بجوانبه، وبعضها عليه، إذا لم تدخل في المسجدية لم يثبت لها حكمه” .
وقد أفتت اللجنة الدائمة، بجواز السكن فوق المسجد، إذا كان السكن متقدما على المسجد، أي قبل تحبيسه. أما بعد تحبيسه فلا، لأن ما فوقه تابع له. وهذا نص الفتوى:
“لا مانع من كون المسجد تحت السكن إذا كان المسجد والسكن بنيا من الأصل على هذا الوضع، أو أحدث المسجد تحت السكن، أما إذا كانت إقامة السكن فوق المسجد طارئة فإن هذا لا يجوز؛ لأن سقفه وما علاه تابع له” .
الخلاصة: يتلخص مما سبق أنلاتخاذ بيت فوق المسجد حالتان:
1- الحالة الأولى: أن يكون المسجد قائما، قد وقف للصلاة فيه، فإنه لا يجوز أن يبنى فوقه بيت للسكن؛ لأن ما فوق المسجد تابع له في الحكم. وقد نقلت أقوال المذاهب الأربعة في ذلك في المقال السابق.
2- الحالة الثانية: أن يكون المسجد والسكن فوقه بنيا من الأصل هكذا، أو كان إحداث المسجد متأخرا عن السكن، فإن هذا جائز على الراجح إن شاء الله، وهو مذهب الجمهور من أصحاب المذاهب الأربعة.
وخلاصة القول في المساجدالتي فوقها بيوت هي:
الجواز إذا كان المسجد طارئا على السكن أو مقارنا له، والمنع إذا كان السكن طارئا على المسجد.
• وعلى هذا فلا إشكال في المساجد التيتتخذ في أسافل البيوت والعمائر، لأن العادة أن اتخاذها يكون طارئا على السكن، وليس العكس. والله أعلم.