الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:17-18].
قال الشنقيطي رحمه الله: (أظهر الأقوال في الآية الكريمة، أن المراد بالقول ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من وحي الكتاب والسنة، ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68] الآية. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13-14].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي يقدمون الأحسن، الذي هو أشد حسناً، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن، ويقدمون الأحسن مطلقاً على الحسن. أما الدليل على أن القرآن الأحسن المتبع ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الزمر:55] وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف:145].
وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن، فقد دلت عليه آيات من كتابه.
واعلم أولاً أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب، وأن المندوب أحسن من مطلق الحسن؛ فإذا سمعوا مثلاً قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] قدموا فعل الخير الواجب على فعل الخير المندوب، وقدموا هذا الأخير على مطلق الحسن الذي هو الجائر…
ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل:126] فالأمر في قوله: {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} للجواز، والله لا يأمر إلا بحسن. فدل ذلك على أن الانتقام حسن، ولكن الله بين أن العفو والصبر، خير منه وأحسن في قوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في إباحة الانتقام: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى:41]، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه، في قوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43]، وكقوله في جواز الانتقام: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء:148] مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه، وأنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149]… أضواء البيان (7/34-35).
وذَكَرَ أمثلةً كثيرة على ذلك، وبين أن العفو والصفح خير من الانتصار والانتقام، وأن إخفاء الصدقات وإيتاءها الفقراء خير من إبدائها. وليس القصد الاستقصاء، ولكن تأملُ موضع البشرى والأخذُ بالعزائم والفضائل؛ فالله يحب أهل العزائم العالية الذين ينافسون على الدرجات السامية، لذلك أمر بالمسارعة والمسابقة إلى ما يوجب المغفرة والجنة وهي الطّاعة، وأمر بالفرار إليه سبحانه، وأرشدنا رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى أدب الدعاء فقال: (فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس). فلا يجمل بمن أيقن بفضل الدرجات أن يقنع بأخس الدركات، قال سبحانه: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21].
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول: إن لي نفساً تواقة؛ لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نِلتُها تاقت للخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة. وكان عمر يسابق أبا بكر في الإنفاق فيأتي بشطر ماله فيجد صاحبه قد أتى بماله كله. وهكذا كان الصحابة يتنافسون في القيام والصيام والبر والصلة وجميع أبواب الخير لا يحقرون من المعروف شيئا؛ فإن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالاً غير هذا؛ منها ما روي عن ابن عباس في معنى {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] قال: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن، وينكف عن القبيح، فلا يتحدث به. وقيل: يستمعون القرآن وغيره، فيتبعون القرآن.
وقيل: إن المراد بأحسن القول (لا إله إلا الله)، وبعضهم يقول: إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل البعثة، كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، إلى غير ذلك من الأقوال. والله أعلم.