الفتن والبلايا كير القلوب، ومحك الإيمان وبها يتبين الصادق من الكاذب كما قال تعالى: “وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”، فالمحن تقسم الناس إلى صادق وكاذب ومؤمن ومنافق، وطيب وخبيث، فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه ونجا بصبره، وإلا وقع فيما هو أعظم وأشد.
ولذا كان الصبر عند حدوث الفتن المضلة من أعظم عوامل الثبات ومن أجل أسباب القوة والعزة، فالصبر دواء ناجع لمن ابتلي وفتن.
قال تعالى: “وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ”.
قال السعدي رحمه الله: “وأما الغنى والفقر فهو فتنة وحكمة من الله تعالى كما قال: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً)، الرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من العاصين، والرسل فتناهم بدعوة الخلق، والغني فتنة للفقير، والفقر فتنة للغنى.
وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار، دار الفتن والابتلاء والاختبار.
والقصد من تلك الفتنة (أَتَصْبِرُونَ) فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة فيثيبكم مولاكم أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة”. تيسير الكريم الرحمن 3/394.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم السعادة لمن جنب الفتن وصبر عليها إذا ما ابتلي بها.
فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: “أيم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواها” صحيح سنن أبي داوود.
فقوله (ولمن ابتلي فصبر): لمن بكسر اللام أي: ما أحسن وما أطيب صبر من صبر عليها، ولا يخفى أنه لو حمل على معنى التعجب لصح بالفتح أيضا” عون المعبود 11/345، وبذل المجهود 17/169.
وأما معنى (فواها) فقد قال الخطابي رحمه الله بأنها كلمة معناه التلهف، وقد يوضع أيضا موضع الإعجاب بالشيء، فإذا قلت: ويها كان معناه الإغراق. معالم السنن 4/460.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: “قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك -فذكر الحديث- قال فيه: “كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت (أي: القبر) فيه بالوصيف (وهو العبد أو الخادم، والوصيفة الأمة، يريد أن الناس يشغلون عن دفن موتاهم وهذا يدل على أن الفتن تكثر)؟ قلت: الله ورسول أعلم، قال: عليك بالصبر” صحيح ابن ماجة وغيره.
ترجم الحافظ ابن كثير لهذا الحديث في النهاية في الفتن 2/72 بقوله: “نصح الرسول صلى الله عليه وسلم بتحمل الأذى عند قيام الفتن، والبعد عن المشاركة في الشر”.
ومن فضائل الصبر عند الفتن والبلايا أنه يحول الهزيمة إلى نصر والمحن إلى منح، فقد حكى الله تعالى في كتابه عن أصحاب ذلك النبي لما قاتل ومن معه فهزموا فكان موقفهم من الحدث موقفا صحيحا وكان من ذلك صبرهم، وقد أثنى الله عليه لذلك.
قال تعالى: “َكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”.
وكلامنا عن الصبر الجميل، لا عن يبس القلب فتنبه ولا تغفل.
قال ابن القيم رحمه الله: “وقد أمر الله سبحانه في كتابه بالصبر الجميل.. فسمعت شيخ الإسلام بن تيمية يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه” المدارج 2/160.
وقال كذلك رحمه الله: “والفرق بين الصبر والقسوة: أن الصبر خلق كسبي يتخلق به العبد، وهو حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكي، فيحبس النفس عن التسخط، واللسان عن الشكوى، والجوارح عما لا ينبغي فعله، وهو ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية.
وأما القسوة فيبس في القلب يمنعه من الانفعال، وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل، فلا يتأثر لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله” الروح 324.