الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال الله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].
قال ابن الجوزي: “وفي الخبيث والطيب أربعة أقوال: أحدها: الحلال والحرام، قاله ابن عباس والحسن.
والثاني: المؤمِن والكافر، قاله السدي.
والثالث: المطيع والعاصي.
والرابع: الرديء والجيِّد، ذكرهما الماوردي”. زاد المسير (2/270).
قال أبو حيان: “والأحسن حمل هذه الأقوال على أنها تمثيل للطيب والخبيث لا قصر اللفظ عليها”. تفسير البحر المحيط (5/26)
في هذه الآية نفي التماثل والاستواء وإثبات التفاضل بين الخبيث والطيب، فإن الله أحل الطيبات وحرم الخبائث. وفي هذا رد على من يريد التسوية بين المختلفين، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر: 58]. وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]. وقال: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18].
فكل من يدعو إلى التسوية بين المؤمن والكافر وبين التقي والفاجر فقد ردَّ على الله حكمه، وارتاب في حكمته وعدله. وكل من تَسَمَّح وادعى أن الإسلام دين المساواة فقد أعظم على الله الفرية؛ فالإسلام دين العدل؛ والعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، فالله لم يسو بين المختلفين ولا المتفاضلين، بل ولا سوى بين الذكر والأنثى. قال تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران: 36]. وأصحاب هذه الدعوى إنما حملهم عليها جهلهم بالدين أو انبهارهم بأهل الشرك وسعيهم في إرضائهم، حتى لقد بلغ الأمر ببعضهم أنه يستحيي من إظهار بعض شعائر الدين وشرائعه كأنها عورة يحرم إبداؤها. والله المستعان.
وفي الآية أن الخبيث أكثر من الطيب في الغالب، ولذلك قدم ذكره على الطيب. وقد تظافرت النصوص في بيان ذلك؛ كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} [هود: 17] وقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وقوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [الأنعام: 116] وقوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 71] وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8] إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الصحيحين أن الله تعالى يقول: يا آدم. فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك. قال: يقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين. فذاك حين يشيب الصغير.
وفي الصحيحين أيضا: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة). والراحلة هي البعير القوي على الأسفار والأحمال النجيب التام الخلق الحسن المنظر. والمعنى أن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليل، فهم بمنزلة الراحلة في الإبل الحمولة.
وفي الآية أن الخبيث له بريق وبهرج، فلذلك نبه عليه لئلا يغتر به. فالاغترار بالكثرة سبيل أهل الجهالة، وإنما الاعتبار بالتقوى والديانة والصلاح، وجميل الشمائل والأخلاق.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه الأمم فجعل يمرُّ النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد. فلا والله ما كان في دعوة الأنبياء عليهم السلام نقص ولا عيب، ولكن ليعلم الناس أن كثرة الأتباع لا تستلزم صحة المناهج. قال الفضيل بن عياض رحمه اللّه: اتّبع طريق الهدى، ولا يضرّك قلّة السّالكين، وإيّاك وطرق الضّلالة ولا تغترّ بكثرة الهالكين.
والخبيث يشمل كل رديء ومحرم في العقائد والمكاسب والأبضاع وكل محرم من مطعوم ومشروب. فلا يستوي الإسلام وغيره، ولا يستوي التوحيد والشرك، ولا تستوي السنة والبدعة، ولا يستوي الحلال والحرام، ولا يستوي البيع والربا، ولا يستوي النكاح والسفاح. ولا يستوي الدعاة إلى الخير والدعاة على أبواب جهنم وإن كانوا أكثر أتباعا وأشياعا. فإن هذه الكثرة مع الخبث في حكم العدم، لأن خبث الشيء يبطل فائدته، ويمحق بركته، ويذهب بمنفعته. قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]. فالله طيب لا يقبل إلا طيبا، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، سبحانه لا إله إلا هو.