“قل هذا حكم زُفر ولا تقل هذا حكم الله” عبد القادر دغوتي

أنوَه بداية أن عنوان هذا المقال هو من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله كما سيأتي في سياقه. وقد وجدتُه أوفى وأبلغ للمقصود.
أما “زُفر” المذكور في العنوان، فهو زُفر بن الهديل… فقيه كبير من أصحاب أبي حنيفة. أصله من أصبهان، أقام بالبصرة وولي القضاء بها وتُوفي بها…1.
لماذا هذا المقال؟
إن واقع الناس في زماننا يشهد على حاجتهم المُلحَة إلى التذكير الدائم بمقتضى هذه الكلمات النيرة التي جهر بها ابن تيمية رحمه الله على سبيل التعليم والنصح والإرشاد؛ ذلك أن من المسلمين -أفرادا كانوا أو فرقا وجماعات- من أعماهم التعصب الممقوت للأشخاص والمذاهب، فضاق أُفقُهُم، وضعُف إدراكُهم، وساء أدبُهُم مع الخالق والمخلوق، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
نرى من مظاهر ما ذُُكر:
– عدم اعتبار الفرق بين الظني والقطعي من الأحكام الشرعية، وبين ما يجوز وما لا يجوز فيه الاجتهاد، وبين ما يسع العلماء الاختلافُ فيه من المسائل الشرعية وما لا يصح فيه الاختلاف، وبين الأحكام الإلهية المستفادة من نصوص شرعية قطعية الثبوت والدلالة، وما دونها من الأحكام الاجتهادية التي استفادها العلماء المجتهدون عن طريق الاستنباط من نصوص ظنية في ثبوتها أو دلالتها أو ظنية ثبوتا ودلالة معا، أو عن طريق الرأي فيما لا نص فيه…
– تقديس آراء الرجال والمذاهب والتعصب لها واعتبارها الصواب المُحكم الذي لا احتمال معه للخطأ، والحق المطلق الذي لا يشوبه نقصان ولا يأتيه خطأ من بين يديه ولا من خلفه، وما خالفه فهو الخطأ الظاهر والباطل المحض.
– ويترتب عن هذا العمى المنهجي إساءة الأدب مع الله تعالى، إذ تُرفع آراء الرجال الاجتهادية الظنية المتغيرة إلى مصاف الأحكام الإلهية القطعية الثابتة.
– ناهيك عن إساءة الأدب مع الخلق ومع العلماء خاصة، حيث الجُرأة عليهم بالسب والشتم وإساءة الظن والتضليل والتفسيق والتبديع بالباطل وضرب بعضهم ببعض…
كل هذا لمجرد أنهم خالفوا رأيا اجتهاديا أضفى عليه المتعصبون صفة الحكم الإلهي القطعي الثابت الملزم لكل الناس في كل زمان ومكان وحال..
مرد هذا الغبش في الرؤية
إن أصل هذا الخلط؛ هو الحيدة عن المنهج العلمي الذي سار عليه علماء الأمة من السلف والخلف، في التعامل مع قضايا الاختلاف الاجتهادي. وهو منهج يقضي بأن لا ينظر المجتهد إلى ما يُثمره اجتهاده أنه الحكم القطعي الذي لا احتمال فيه لخطأ، ولا إلى ما يُثمره اجتهاد غيره أنه الخطأ الذي لا احتمال فيه لصواب؛ وإنما الذي يسعه هو العمل بما أداه إليه اجتهاده وبما ترجَح عنده أنه الصواب؛ لأنه أقصى ما استطاعه، ويكون ذلك هو الحكم الشرعي في حقه أصالة وفي حق مقلده تبعا، دون أن يُلزم به مخالفيه من المجتهدين.
وفيما يلي بعض ما أثر عن علماء الصحابة ومن بعدهم، من توجيهات تردَ الأمور إلى نصابها و تزنها بميزانها الصحيح:
– عن أبي بكر رضي الله عنه أنه سُئل في الكلالة فقال: إني سأقول فيها برأيي؛ فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان: أراه ما خلا الوالد والولد2.
– وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لقي رجلا، فقال: ما صنعت؟ -يعني في مسألة- قال: قضى علي وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيتُ بكذا. قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنتُ أردك إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي والرأي مشترك 3.
– وروي عن الإمام مالك قوله في بعض ما كان ينزل به، فيُسأل عنه، فيجتهد فيه رأيه: “إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين”4 وكان يقول لأصحابه “إنما أنا بشر أُخطئ وأصيب، فانظروا رأيي. فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه”5.
وعنه أيضا: “الحكم حكمان: حكم جاء به كتاب الله وحكم أحكمته السنة. قال: ومجتهد رأيه فلعله يُوفق، قال: ومتكلف فطعن عليه”6.
– وكان أبو حنيفة يقول: “علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه”7 وسُئل يوما عن اجتهاده: أهو الحق الذي لا شك فيه؟ فأجاب: “والله ما أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه”8.
وللبحث بقية نكملها في العدد القادم بحول الله تعالى وقوته.
ـــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ الإعلام: قاموس تراجم أشهر الرجال والنساء… تأليف: الدهان عبد السلام.
2 ــ سنن الدارمي، كتاب الفرائض، 2/365 ـ 366
3 ــ إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، 1 /65 .
4 ــ نفسه 1/44.
5 ــ جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، 2/32.
6 ــ نفسه 2/31.
7 ــ ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل. ابن حزم الأندلسي.
8 ــ تاريخ بغداد، أو مدينة السلام. الخطيب البغدادي، 13/402.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *