السجود أشرف أنواع العبادات وأعلاها درجة، فهو عبادة الملائكة والسموات والأرض وجميع المخلوقات. وهو عبادةٌ لا يُرَى المؤمنُ أذلَّ ولا أخضعَ للهِ مثلما يكون فيها، فبها يضعُ أشرف عضو في الجسم وهو الجبهة على الأرض إيذانًا للنفسِ والشيطان بأنَّ الخضوعَ والتذللَ لا يكون إلا للهِ، فتراهُ هادئَ الأركان حاضرَ الجَنَان، يتمتمُ بلسانِه الرطبِ بذكرِ الله: سبحان ربي الأعلى، علوُّ قهرٍ وقدرٍ لله، قال تعالى: )وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:18]، وعلوُّ مكانٍ للذاتِ الإلهيَّة، قال سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثً) [الأعراف:54].
ولما كانت عبادة السجود بهذه المنزلة أمر الله بها سيد الأولين والآخرين محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ) [الحجر:97-98].
وقال سبحانه وتعالى في وصف عباده المؤمنين: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) [السجدة:15].
وبين سبحانه وتعالى أن السجود عبادة من العبادات التي يُرتجى بها الفلاح في الدنيا والآخرة فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77].
وأنكر سبحانه وتعالى على من امتنعوا عن السجود له من الكافرين فقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) [الفرقان:60]
ولما كان السجود من أخص أنواع العبادة لله عز وجل، أمر الله بصرفه له وحده دون ما سواه فقال تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم:62].
وحيث أن الشمس والقمر هما أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده، تحت قهره وتسخيره فنهى عن السجود لهما فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت:37].
وقال سبحانه وتعالى على لسان الهدهد مخبرا عن حال قوم سبأ: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) “ثم عقب على ذلك مستنكرا ما وجد عليه أهل سبأ من عبادة الشمس والسجود لها، بدلا من عبادة الله والسجود له”(1) فقال: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل:25-26].
وفي النهي عن السجود للشمس والقمر مع عظمهما نهي عن السجود لغيرهما، قال ابن تيمية: (والشمس أعظم ما يرى في علم الشهادة، وأعمه نفعا وتأثيراً، فالنهي عن السجود لها نهي عما هو دونها بطريق الأولى من الكواكب والأشجار، وغير ذلك)(2 ).
قال المقريزي: (ومن خصائص الألوهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبهه به)(3 ).
قال العلامة ابن عبد البر في شرحه لحديث: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعبد) -المتفق عليه- : “..وكان يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين يصلون إلى قبور أنبيائهم واتخذوها قبلة ومسجدا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون لها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر…”( 4).
وأخرج ابن ماجة في سننه وصححه الألباني أن معاذاً لما قدم من الشام، سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: “ما هذا يا معاذ؟”.
قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها”.
قال الإمام القرطبي معلقا: “وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للأقدام لجهله؛ سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم”( 5).
ولا يشكل على هذا سجود إخوة يوسف فقد “كان هذا سجود تحية لا سجود عبادة، وهكذا كان سلامهم بالتكبير وهو الانحناء، وقد نسخ الله في شرعنا ذلك، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء والقيام” كما بين ذلك الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن.
أما الكعبة فإن السجو لا يكون لها وإنما إليها امتثلا لأمر الله سبحانه؛ قال شيخ الإسلام: “أجمع المسلمون على أن السجود لغير الله محرم وأما الكعبة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ثم صلى إلى الكعبة، وكان يصلي إلى عنزة ولا يقال لعنزة، وإلى عمود شجرة ولا يقال لعمود ولا لشجرة؛ والساجد للشيء يخضع له بقلبه ويخشع له بفؤاده؛ وأما الساجد إليه فإنما يولي وجهه وبدنه إليه ظاهرا كما يولي وجهه إلى بعض”( 6).
————-
(1) – التيسير 4/424.
(2) – مجموع الفتاوى: 23/146.
(3) – التجريد:18
(4) – التمهيد 5/45.
(5) – الجامع لأحكام القرآن:1/293.
(6) – مجموع الفتاوى 4/358