التشبث بالعادة والإلف والنشأة في مقابل الشرع من أسباب عدم قبول الحق

من الأسباب التي تعين المرء على الانقياد للحق وتقويه على الاستسلام له: خروجه عن العادات والمألوفات المخالفة له، وتوطين النفس على مفارقتها فإن “الفطام عن المألوف شديد، والنفوس عن الغريب نافرة” قاله الغزالي رحمه الله في المستصفى1/10.
فما على العبد أضر من تمَلّك العادات له، وما عارض الكفار الرسل إلا بالعادات المستقرة الموروثة لهم عن الأسلاف الماضين، فمن لم يوطن نفسه على مفارقتها والخروج عنها فهو مقطوع وعن الفلاح والفوز ممنوع.
فـ “أصل مجاهدة النفس فطمها عن المألوفات وحملها على غير هواها” انظر الفتح 11/338.
فالعادات وما نشأ عليه المرء له تأثير قوي في تركيب شخصيته ومن الأسباب الرئيسة في تقرير عقيدته وأخلاقه وسلوكه.
فانظر إلى ملكة سبأ مع ما كان معها من العقل والرأي كيف كانت تعبد الشمس؟! فذكر الله أن النشأة هي التي حملتها على ركوب أضل الضلال الذي لا يلتبس على صاحب عقل وفطرة سوية قال تعالى: ” وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ”.
قال ابن عاشور رحمه الله في تفسيره للآية: ” (إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ) دلالة على تمكنها من عبادة الشمس، وكان ذلك التمكن بسبب الانحدار من سلالة المشركين فالشرك متطبع في نفسها بالوراثة فالكفر قد احاط بها بتغلغله في نفسها وبنشأتها عليه وبكونها بين قوم كافرين فمن أين يخلص إليها الإيمان والهدى؟” التحرير والتنوير1/3080.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: “صدها عن الإيمان العادة التي كانت عليها لأنها نشأت ولم تعرف إلا قوما يعبدون الشمس” زاد المسير 6/178.
ولهذا قيل: أن الإنسان ينشأ على دين واعتقاد يتلقاه من مربيه ويتبع فيه أسلافه
قال ابن القيم رحمه الله في معرض بيانه للأسباب المانعة للانقياد للحق: “السبب العاشر مانع الإلف والعادة والمنشأ فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة ولهذا قيل هي طبيعة ثانية فيربى الرجل على المقالة وينشأ عليها صغيرا فيتربى قلبه ونفسه عليها، كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد ولا يعقل نفسه الا عليها، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وأن يسكن موضعها، فيعسر عليه الانتقال ويصعب عليه الزوال، وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب معنى، فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنحل، ليس مع أكثرهم -بل جميعهم- إلا ما عسى أن يشذ إلا عادة ومربى تربى عليه طفلا لا يعرف غيرها ولا يُحسن به.
فدين العوائد هو الغالب على أكثر الناس فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة الى طبيعة ثانية فصلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وافضلهم محمد كيف غيروا عوائد الأمم الباطلة، ونقلوهم إلى الإيمان حتى استحدثوا به طبيعة ثانية خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم الفاسدة، ولا يعلم مشقة هذا على النفوس إلا من زاول نقل رجل واحد عن دينه ومقالته الى الحق” مفتاح دار السعادة 1/98.
فاحرص أخي المسلم على الانقياد للحق والخضوع له وإن كان مباينا لما نشات عليه وتربيت فالحق أحق أن يتبع فلا تغالط نفسك وتخادعها.
فها هو سلمان الفارسي رضي الله عنه لم يمنعه مانع النشأة من الرحلة إلى خارج بلده وسماع خلاف قول ودين بلده.
مع التنبيه أن النشأة والإلف والعادة سبب وليست عذرا فلا يجوزلأحد أن يتعلل بذلك وإلا كان ساذجا كحال الأمم الجاهلة قال ابن عاشور رحمه الله: ” الأمم في سذاجتهم إنما يتعلقون بالمألوفات فيعدونها كالحقائق، ويقيمونها ميزانا للقبول والنقد” التحرير والتنوير 1/785.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *