التثبت من كل خبرٍ ومن كل ظاهرة، ومن كل حركةٍ قبل الحكم عليها؛ هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافةِ في عالم العقيدة، ولم يبق مجالٌ للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتأمل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية، والفروض الوهميةِ في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
والأمانة العلمية التي يشيدُ بها الناس في العصر الحديث، ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية، التي يعلنُ القرآن تبعتها الكبرى، ويجعلُ الإنسان مسئولاً عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.
إنَّها أمانةُ الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانةٌ يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعًا، أمانةٌ يرتعشُ الوجدان لدقتها وجسامتها، كلَّما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلَّما أصدر حكمًا على شخصٍ أو أمرٍ أو حادثة.
قال الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسئولا} الإسراء.
يقولُ الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: “قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول: لا تقل..
وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإنَّ الله تعالى سائلك عن ذلك كله.
ومضمون ما ذكروه أنَّ الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ َعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} الحجرات.
فلا تتبع ما لم تعلمهُ علم اليقين، ومالم تتثبت من صحته: من قولٍ يقال وروايةٍ تروى، ومن ظاهرةٍ تُفسر، أو واقعةٍ تُعلل. ومن حكمٍ شرعي، أو قضيةٍ اعتقادية.
وفي الحديث: “إياكم والظن فإنه أكذب الحديث” البخاري ومسلم.
وفي سنن أبي داود: “بئس مطية الرجل: زعموا”. صحيح سنن أبي داود 4158.
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقريرِ ذلك المنهج الكامل المتكامل، الذي لا يأخذُ العقل وحده بالتحرجِ في أحكامه، والتثبت في استقرائه؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعرهِ وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكمًا، ولا يبرم الإنسان أمرًا إلاَّ وقد تثبت من كل جزئيةٍ، ومن كل ملابسةٍ، ومن كل نتيجةٍ، فلم يبق هُنالكَ شكٌ ولا شبهة في صحتها.
إنَّ التفريط في هذا المنهج العظيم، الذي أوصى الله به عباده المؤمنين، لمِن أعظم أسباب الفرقةِ والعدوان والبغضاء، فكم من مظلومٍ في مالهِ أو بدنه أو عرضهِ كان سببُ ذلك التسرع في نقل الأخبار وإشاعتها، دون تمحيصٍ وتثبت، وكم من أواصرَ وصلاتٍ قُطعت بين الأرحام والإخوان، كان سببها عدمُ التثبتِ والقول بالظنون أو بلا علم، بل كم قامت من حروبٍ وفتنٍ وأساسها أخبارٌ وشائعاتٌ وظنونٌ وتهمٌ باطلة.
من أجل ذلك كان لزامًا على كل مسلم يريد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة، وألاَّ يكون سببًا في ظلمِ العباد، وإثارةِ الفتن، أن يعي معنى الآية السابقة ويطبقها في حياته، فيتثبتُ من كلامه قبل أن يدلي به للناس، ويتثبتُ من سماعه، فلا ينقلُ عن أحدٍ مالم يقلهُ أو يقصده. ويتثبتُ في أحكامهِ ومواقفه.