الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء:29].
قال الماوردي في النكت والعيون (1/291): ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ فيه قولان: أحدهما: يعني لا يقتل بعضكم بعضاً، وهذا قول عطاء والسدي، وإنما كان كذلك لأنهم أهل دين واحد فصاروا كنفس واحدة، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ [النور:61]. والثاني: نهى أن يقتل الرجل نفسه في حال الغضب والضجر.
قال الشوكاني في فتح القدير (2/130): أي: لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل، فقرّر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه.
وهذا نهي أكيد عن قتل النفس، وقد جاءت النصوص متضافرة في تغليظ عقوبة من فعل ذلك؛ فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:195]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تَحَسَّى سمًّا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا». متفق عليه.
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن قتل نفسه بحديدة عذب به في نار جهنم». متفق عليه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فَحَزَّ بِها يده، فما رقأ الدم حتى مات قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة». رواه البخاري.
وعنده أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعنها يطعنها في النار».
فتبين من هذه النصوص أن الانتحار من كبائر الذنوب وأعظم الآثام، والمنتحر يُعَذَّب بجنس ما قتل به نفسه، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه لفسقه واعتدائه، وذلك عقوبة له وزجرا لغيره من أمثاله.
ولا ريب أن الشريعة جاءت بحفظ الضرورات الخمس ومن أعظمها حفظ النفس؛ فيحرم على الإنسان قتل نفسه، بل ولا إتلاف عضو من أعضائه. وقتل النفس دليل على ضعف الإيمان لأن فيه تسخطا على قضاء الله وقدره، ودليل على القنوط واليأس؛ وقد قال تعالى: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف:87].
وهو أيضا من الاعتداء على حق الله سبحانه، لأن النفس ليست ملكاً لصاحبها؛ وإنما هي ملك لله الذي خلقها وأمرها ونهاها، وحرم إزهاقها بغير حق، وقتل النفس حرام بكل صوره وأشكاله؛ لا يباح منه شيء، سواء كان الدافع دينيا كما يفعل من يفجرون أنفسهم بدعوى الجهاد وهو لعمر الله عين الإفساد، أو كان الدافع أخلاقيا كمن يبتلى في عرضه فلا يطيق مخالطة الناس بعد ذلك، أو كان اجتماعيا أو اقتصاديا كما يفعل من تعسرت عليه المكاسب وضاقت عليه الحيل، أو كان من باب التظلم كما يفعل من يضرمون النار في أجسادهم تعبيرا عما لحقهم من الظلم والحيف؛ أو ما حرموا منه من الوظائف والحقوق.
ألا فليعلم المسلمون أن الله جعل لكل نفس أجلا، ولكل شيء قدرا، وقد كان خير البشر يُؤْذون في أنفسهم وفي أعراضهم ويُمنعون حقوقهم ويحاصرون ويجوعون حتى ما تحملهم أرجلهم، لكن إيمانهم ويقينهم بما وعدهم ربهم يهون عليهم مصيبات الدنيا، وليتق الله من ينسب إلى العلم ثم هو يصحح فعل هؤلاء ويرجو لهم الشهادة، فحسبنا أن نستغفر لهم، ونبين للناس حكم الله في فعالهم، وقبح ما أقدموا عليه، ونحن مشفقون أن يكون من سن هذا الفعل الشنيع حاملا أوزار كل من تبعه واقتدى به، والله المستعان وعليه التكلان. والله أعلم.