مِن أظهر الأدلة على رحمة أهل السنة والجماعة، أتباعِ منهج السلف بهذه الأمة بَرِّها وفاجرها، عدمُ تركهم الاستغفار لأهل القبلة، والصلاة على من مات منهم؛ قال الإمام المالكي محمد بن أبي زمنين في كتابه (رياض الجنة بتخريج أصول السنة ص:224): باب في الاستغفار لأهل القبلة والصلاة على من مات منهم:
قال محمد -يقصد نفسه-: وأهل السنة لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة ولا يرون أن تترك الصلاة على من مات منهم وإن كان من أهل الإسراف على نفسه.
وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: 19)، {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة: 103)” اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما الاستغفار للمؤمنين عموما فقد قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: 19).
وقد أمر الله بالصلاة على من يموت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر للمنافقين حتى نُهي عن ذلك، فكل مسلم لم يُعلم أنه منافق جاز الاستغفار له، والصلاة عليه وإن كان فيه بدعة أو فسق..” (منهاج السنة 5/235).
وهذا ما ذهب إليه الصحابة رضوان الله عليهم؛ قال عنهم الإمام النخعي: “لم يكونوا يحجبون الصلاة على أحد من أهل القبلة” (شرح أصول الاعتقاد للالكائي 3/1060).
وقال شيخ الإسلام: “وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم، يجوز الاستغفار له والصلاة عليه، بل يشرع ذلك ويؤمر به كما قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: 19)” (مجموع الفتاوى 24/286).
قال ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطَّحاوية (ص:377): “فمن كان مؤمنا بالله ورسوله، لم يُنه عن الصلاة عليه، ولو كان له من الذنوب الاعتقادية البدعية أو العملية أو الفجورية ما له..”.
قال ابن قدامة الحنبلي: “ويصلى على سائر المسلمين من أهل الكبائر والمرجوم من الزنا وغيرهم..” (المغني 3/508).
قال ابن حزم الظاهري: “ويصلى على كل مسلم، بر أو فاجر، مقتول في حد أو في حرابة أو في بغي ويصلي عليهم الإمام وغيره، ولو أنه شر من على ظهر الأرض، إذا مات مسلما لعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم: “صلوا على صاحبكم” والمسلم صاحب لنا، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} فمن منع الصلاة على مسلم قال قولا عظيما، وإن الفاسق لأحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم” (المحلى 5/249).
ترك أهل الفضل الاستغفار علنا والصلاة على المجاهرين
هذا وقد يمتنع عن الاستغفارِ والصلاةِ على المجاهرين بالفسق والفجور والابتداع أهل العلم والفضل، ممن يكون لامتناعهم تأثير في الزجر عن هذه المعاصي والتنفير منها ومن أهلها، مع أنهم قد يستغفرون لهم سرا.
“سُئل سحنون عن قول مالك في أهل البدع، الإباضية والقدرية وجميع أهل الأهواء أنه لا يصلى عليهم؟
فقال: إنما قال ذلك تأديبا لهم. ونحن نقول به على هذا الوجه، فأما إذا وقفوا ولم يوجد من يصلى عليهم، فأرى أن لا يتركوا بغير صلاة.
قيل له: هؤلاء الذين قتلهم الإمام من أهل الأهواء لما بانوا عن الجماعة ودعوا إلى ما هم عليه ونصبوا الحرب هل يصلى عليهم؟ قال: نعم..” (رواه ابن أبي زمنين في الرياض، ص:226).
وقال شيخ الإسلام: “..لكن لا يجب على كل أحد أن يصلى عليه، وإذا كان في ترك الصلاة على الداعي إلى البدعة والمظهر للفجور مصلحة من جهة انزجار الناس، فالكف عن الصلاة كان مشروعا لمن كان يؤثر ترك صلاته في الزجر بأن لا يصلى عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن قتل نفسه: “صلوا على صاحبكم”، وكذلك قال في الغالّ: “صلوا على صاحبكم”، وقد قيل لسمرة بن جندب: “إن ابنك لم ينم البارحة”، فقال: “أبشِمًا”، قالوا: “بشِمًا”، قال: “لو مات لم أصل عليه”، يعني لأنه يكون قد قتل نفسه” (منهاج 5/236).
وقال: “وإذا ترك الإمام أو أهل العلم والدين (الصلاة) على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجرا عنها لم يكن ذلك محرما للصلاة عليه والاستغفار له، بل قال النبي فيمن كان يمتنع عن الصلاة عليه وهو الغالّ، وقاتل نفسه، والمدين الذي لا وفاء له: (صلوا على صاحبكم)..” (مجموع الفتاوى 7/217)، والحديث رواه أبو داود برقم:3343، وصححه الشيخ الألباني.
وأما آحاد الناس الذين لا يترتب عن امتناعهم عن الصلاة والتشييع مصلحة، فينبغي أن يتبعوا الجنازة ويصلوا عليها تحصيلا للأجر والثواب، وقياما بحق المسلم. وإذا عدم من يصلي عليهم فإنه لا يجوز ترك الصلاة عليهم بحال.
وقال شيخ الإسلام: “وأما من كان مظهرا للفسق مع ما فيه من الإيمان؛ كأهل الكبائر فهؤلاء لابد أن يصلي عليهم بعض المسلمين” (مجموع الفتاوى 24/286).
وختاما فهذا مذهب السلف حقا وأهل السنة صدقا، أما من ينتحل مذهبهم كذبا وزورا من غلاة التجريح الذين غلب عليهم الغلو وطغا عليهم الإفراط، فلا تراهم إلا منفرين غير مبشرين، ومعسرين غير ميسرين، وهم بذلك مخالفون لهدي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، فما أعظم جناية هؤلاء على السنة ومنهج السلف والله المستعان.