الرجوع عن الخطأ إذا ظهر الحق والصواب

الخطأ صفة ملازمة للبشر، فإذا استيقن المسلم ذلك وجب عليه أن يرجع عن الخطأ إذا ظهر له الحق، وهذا من كمال الورع والصدق، فالرجل الصادق لا يقف عاجزاً ضعيفاً أمام نفسه حينما يتبين له الخطأ، ولا يتصور أن ذلك قد ينقص قدره أو يضعف وزنه، بل يسارع جاداً إلى الأخذ بزمام الحق، ويعض عليه النواجذ، وهذا يحتاج إلى تلاشٍ لحظوظ النفس وتقديس الذات .
والسلف الصالح يرسمون لنا منهجاً واضحاً مشرقاً في هذه القضية فهذا عمر بن الخطاب يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: “ولا يمنعنَّك قضاءٌ قضيت فيه اليوم فراجعت فيك رأيك، فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحقَّ، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل” .
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: “من آفات التعصب الماحقة لبركة العلم: أن يكون طالب العلم قد قال بقول في مسألة، كما يصدر ممَّن يفتي، أو يصنِّف، أو يناظر غيره، ويشتهر ذلك القول عنه، فإنه قد يصعب عليه الرجوع عنه إلى ما يخالفه، وإن علم أنه الحق وتبيَّن له فساد ما قاله. ولا سبب لهذا الاستصعاب إلا تأثير الدنيا على الدين، فإنه قد يسوِّل له الشيطان أو النفس الأمارة أن ذلك ينقصه، ويحط من رتبته، ويخدش في تحقيقه، ويغض من رئاسته، وهذا تخيل مختل، وتسويل باطل، فإن الرجوع إلى الحق يوجب له من الجلالة والنبالة وحسن الثناء ما لا يكون في تصميمه على الباطل، بل ليس في التصميم على الباطل إلا محض النقص له والإزراء عليه بالاستصغار لشأنه.
فإن منهج الحق واضح المنار يفهمه أهل العلم، ويعرفون براهينه، ولا سيما عند المناظرة، فإذا زاغ عنه زائغ تعصباً لقول قد قاله أو رأي رآه، فإنه لا محالة يكون عند من يطلع على ذلك من أهل العلم لأحد الرجلين: إما متعصب مجادل مكابر، إن كان له من الفهم والعلم ما يدرك به الحق ويتميَّز به الصواب. أو جاهل فاسد الفهم باطل التصور، إن لم يكن له من العلم ما يتوصل به إلى معرفة بطلان ما صمَّم عليه وجادل عنه. وكلا هذين المطعنين فيه غاية الشين” .
والهوى قد يعمي الإنسان فلا يقبل الحق الواضح الأبلج، لذا حذر أئمتنا رحمهم الله تعالى من هذا المسلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله “والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وطاعة رسوله، يدور على ذلك ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً عاماً إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا طائفة انتصاراً مطلقاً عاماً إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يُجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يُجمعون على خطأ، بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مُسلَّماً إلى عالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم” .
ولعل من الأمثلة التي يستشهد بها في هذا الباب لتكون نبراساً للباحثين عن الهدى ما حدث في أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في امرأة ماتت وتركت زوجاً وأماً وإخوة أشقاء أنه لا شيء للإخوة الأشقاء وأن الإخوة لأم لهم الثلث، فاحتج عليه الإخوة الأشقاء وقالوا: إن إخواننا من الأم ورثوا بأمهم وهي هي أمنا. وهب أن أبانا كان حماراً أو حجراً ملقى في اليم أي كأنه لم يكن. فما كان من عمر إلا أن شرك بينهم. فقيل له: إنك قضيت في أول عام بخلاف هذا. فقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي .
ومن الأمثلة التي يحسن ذكرها في هذا المقام: أن الإمام إسحاق بن راهويه ناظر الإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل حاضر -رحمهم الله أجمعين- في جلود الميتة إذا دبغت. فقال الشافعي: دباغها طهورها. فقال إسحاق: ما الدليل؟ فقال الشافعي: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن ميمونة، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بشاة ميتة فقال: “هلا انتفعتم بجلدها؟”.
فقال إسحاق: حديث ابن عكيم، كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر: “لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب” أشبه أن يكون ناسخاً لحديث ميمونة؛ لأنه قبل موته بشهر.
فقال الشافعي: هذا كتاب وهذا سماع.
فقال إسحاق : إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وكان حجة عليهم عند الله، فسكت الشافعي.
فلما سمع ذلك أحمد بن حنبل ذهب إلى حديث ابن عكيم وأفتى به، ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي فأفتى بحديث ميمونة . (فقه التعامل مع الأخطاء على ضوء منهج السلف؛ د. عبد الرحمن المدخلي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *