لا شك أن نقد الأقوال والأفعال والأحوال والرجال في حالة وجود الخلل والخطأ -بالضوابط الشرعية والقواعد العلمية- من الأصول الواضحة في الكتاب والسنة النبوية, ولا يُظنُّ فيمن شم رائحة العلم, وكان له حظ من الفقه والفهم أن يخالف في ذلك, ما دام القصد منه: الإصلاح والتبيين, والنصيحة والتقويم.
لكن كثيرا من الناس قد خرجوا عن جادة الوسطية والاعتدال في هذا المقام فلم يحققوا الإتزان في نقدهم فخرجوا إلى طرفي الإفراط أو التفريط مع أن “العدل واجب لكل أحد على كل أحد في جميع الأحوال, والظلم لا يباح منه شيء بحال حتى إن الله تعالى قد أوجب على المؤمنين أن يعدلوا على الكفار في قوله تعالى: (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)” قاله ابن تيمية رحمه الله انظر المظالم المشتركة 26.
وعليه فيجب إقامة ذلك على ساق العلم و الدليل, والتقعيد والتأصيل، يقول تعالى: “وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً”, مع إرادة وجه الله تعالى بذلك و الحذرمن اتباع الهوى فإن صاحبه كما قال شيخ الإسلام في منهاج السنة 5/256: “يعميه الهوى ويصمه, فلا يستحضر ما لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك, ولايطلبه ولايرضى لرضا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-, ولا بغضب لغضب الله و رسوله -صلى الله عليه وسلم- بل يرضى إذا حصل ما يرضاه لهواه, ويغضب إذا حصل مايغضب له بهواه” غاية حاله محاكاة الذباب في تصيد الأوساخ واقتناص معاييب الآخرين.
قال ابن تيمية رحمه الله: “الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العَقِير (الجريح), ولا يقع على الصحيح, والعاقل يزن الأمور جميعا هذا وهذا” منهاج السنة 6/150.
وصدق من قال:
شر الورى من يعيب الناس مشتغلا مثل الذباب يراعي موضع العلل
ومن أعظم أسباب ذلك المبالغة في المدح أو الذم, أو المجاوزة في البغض أو الحب.
قال الحسن البصري رحمه الله: “أحبوا هونا وابغضوا هونا، فقد أفرط قوم في حب قوم فهلكوا, وأفرط قوم في بغض قوم فهلكوا” شرح السنة للبغوي 13/65.
قال بعضهم:
وأبغض إذا أبغضت مقاربا *** فإنك لا تدري متى أنت راجع
وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا *** فإنك لا تدري متى أنت نازع
“فشدة البغض -إذن-, وكذا شدة الحب: مظنة الغلو والإسراف وترك الاعتدال والمجانبة عن سواء السبيل” فهم الملهم بشرح صحيح مسلم للعثماني 1/73 بتصرف يسير.
ولذلك كثيرا ما يلبس الشيطان على الناس في بابنا هذا بحيث يخرجون الفضيحة في قالب النصيحة, ويعيرون بقناع أنهم يحذرون.
يقول ابن رجب رحمه الله: “ومن أظهر التعيير: إظهار السوء وإشاعته في قالب النصح, وزعم أنه إنما يحمله على ذلك العيوب إما عامة أو خاصا, وكان في الباطن: إنما غرضه التعيير والأذى, فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه” الفرق بين النصيحة والتعيير 35.
قال الشافعي رحمه الله:
تعمدني بنصحك في انفرادي *** وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرض استماعه
ومن الأخطاء في باب النقد: التعميم بغير وجه حق, وهو من أكثر الأخطاء انتشارا بين الناس وله صور، منها:
– من يعمم الحكم على الأعمال مثلا بمجرد النظر إلى عمل واحد، وفي ذلك جور في الحكم!
– ومن الناس من يعمم الحكم على شخص بالنظر إلى مرحلة واحدة من مراحل حياته، ربما تغير عنها وفي ذلك تعد وظلم!
– ومن الناس من يعمم الحكم على طائفة من الناس من خلال النظر إلى حال شخص واحد أو أشخاص منها!.
وقد ذكر الغزالي رحمه الله في “الإحياء” قصة رمزية في خصوص ما نحن فيه تستحق التأمل مفادها: أن ثلاثة من العميان أدخِلوا على الفيل، وكانوا لم يروه من قبل فوضع أحدهم يده على رجله, ووضع الآخر يده على ذيله, ووضع الثالث يده على بطنه, فلما خرجوا سألوهم: ما الفيل؟
فقال الأول: الفيل كسارية المسجد.
وقال الآخر: الفيل كخرطوم طويل به شعر كثيف.
وقال الثالث: الفيل كالجبل العظيم الأملس!!
فأدخلوا مرة أخرى على الفيل، وأمسكوا بجميع أجزائه، وعندها ضحكوا من تعريفاتهم السابقة للفيل واستطاعوا أن يصفوه على حقيقته.
ومما ينبغي الحذر منه عند النقد كذلك نفور النفس، فهذه الأخيرة قد يعرض لها من المعارضات ما يخرجها عن حد الاعتدال، فيحصل لها شيء من النفور الذي يحصل معه نوع تشويش يذهب بلب صاحبه وصفاء ذهنه، مما يكون سببا في مجانبة الحق والصدور عنه.
يقول ابن القيم رحمه الله: “..ومعلوم أن الرأي لا يتحقق إلا مع اعتدال المزاج” بدائع الفوائد 3/136.
وقال ابن عقيل رحمه الله في الواضح في أصول الفقه 1/528: “وإذا نفرت النفوس عميت القلوب، وخمدت الخواطر، وانسدت أبواب الفوائد”, قلت: وينشؤ عن ذلك فساد التصور والقاعدة تقول: “الحكم على الشيء فرع عن تصوره” فتنبه، فإن كل حكم حكم سواء كان نقدا أو غير ذلك، لا بد فيه من الاجتهاد في تحقيق مناطه “وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله, ومعناه: أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي, لكن يبقى النظر في تعيين محله” الموافقات 3/89-90.
فتصور المسائل تصورا تاما من كل وجه يظهرلك الصواب ويجنبك محاكاة الذباب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فهذه المسائل إذا تصورها الناس على وجهها تصورا تاما ظهر لهم الصواب, وقلت الأهواء والعصبيات, وعرفوا موارد النزاع” الفتاوي 12/13.
واعلم أن التصور المستقر في المدركات لم يكن إلهاما ولم يأت من فراغ, بل كان -ولا بد- له موارد خلصت إلى محل الإدراك كانت أساسا في إصدار الأحكام, ومن بين هذه الموارد الأخبار التي يتناقلها الناس فينبغي الوقوف عند حقيقتها, ومعرفة حال ناقليها فإن “آفة الأخبار رواتها” و” كم أشاع الناس عن الناس أمورا لا حقائق لها بالكلية” الرياض الناضرة 272.
فمتى كانت الأخبار صحيحة كانت الأحكام صائبة -مع مراعاة ما سبق ذكره-, ومتى كانت الأخبار باطلة كانت الأحكام خائبة, ومن تم احتاج كل ذي نظر دقيق عند النقد إلى التدقيق والتحقيق في كل خبر من كل طريق، “لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل, ولم تحكم أصول العادة وقواعد السايسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب.. فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق” المقدمة لابن خلدون 9-10.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال يلزمه التحري في النقل, فلا يجزم إلا بما يتحققه, ولا يكتفي بالقول الشائع” انظر ذيل التبر المسبوك للسخاوي.
كما ينبغي أن يتجنب الاعتماد في ذلك على الخبر المجمل فإن الإجمال “لا يسوغ فرض الاستدلال به” البرهان للجويني 1/356.
فالحذر الحذر من الظلم والاعتساف وتحلى أيها الناقد عند إصدار الأحكام والبيان بالعدل والانصاف “فإن الدنيا ظهر قلق, ومتاع خلق, وسراب مؤتلق, هذا يعد الجميل فيصرع, وهذا يؤم السراب فيخدع, وعند الله الملتقى والمجمع” ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب لذي الوزارتين 1/26.