تعد قضية منهج الاستدلال عند أهل السنة والحديث من القضايا الشرعية والعلمية التي يجب على السالك والناظر أن يوليها اهتمامه وعنايته، لما لها من أهمية بالغة في تكوين التحصيل العلمي وغرس الثقة في ذات المتلقي، كما أن تحريرها وتصورها والسير على أسسها يضمن سداد الطريق، ويجنب مسالك أهل التزويق، الذين ركنوا إلى مقرراتهم ومناهجهم المنحرفة ليحكموا من خلالها على شرع الله ودينه تحت غطاء التطوير والتجديد والمسايرة والملائمة والتنوير إلى غير ذلك من دسائس السفهاء، والدعاوى العمياء، وعبث الجهلاء..
فقد طاف هؤلاء “على أرباب المذاهب ففازوا بأخس المطالب، ويكفيك دليلا على أن هذا الذي عندهم ليس من عند الله؛ ما ترى فيه من التناقض والاختلاف ومصادمة بعضه لبعض” .
ولذا فمن أبرز أسباب النزاع وظهور الابتداع اضطراب الناس في مسألة منهج الاستدلال وعدم إحكامها وبنائها على أسسها الصحيحة.
فكم من مبتدع زائغ، وصاحب هوى صيته ذائع استطاع إفساد عقائد الناس وحملهم على مخالفة ما عليه الأكياس بسبب جهلهم بأصول الاستدلال ومصادر التلقي وقواعده وضوابطه.
فحري بنا أن نضبط منهج الاستدلال عند أهل السنة والحديث لأن مبناه على الوحي والدين الذي أكمله الله وأتم علينا به النعمة كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}.
قال البيضاوي رحمه الله عند تفسيره للآية:” (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ..بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرائع، وقوانين الاجتهاد” .
فـلا يمكن أن “تجد من يقول إنه محتاج إلى غير آثار الرسول، إلا من هو ضعيف المعرفة والاتباع لآثاره، وإلا فمن قام بما جاء به الكتاب والسنة، أشرف على علم الأولين والآخرين، وأغناه الله بالنور الذي بعث به محمدا عما سواه” .
وعليه فمشكلة ضبط المنهج هي مشكلة العلم في صلبه، ذلك أن صحة النظر العلمي قيامه على طريقة صحيحة، وأسس سديدة، وإلا سار المرء على غير هدى وبصيرة، يخبط خبط عشواء دون أن يصل إلى نتيجة مفيدة، فتضطرب عنده المسائل، وتختل الدلائل.
فتحديد المنهج السليم يحفظ للمسائل نظامها واتساقها، كما يضبط للأنظار العقلية رؤيتها، بقواعد راسخة، وأصول ثابتة تعين على الدخول على الأمور من أبوابها، والخلوص دون اضطراب إلى أحكامها.
والمنهج لغة: “الطريق، والجمع: المناهج والمنهاج كالمنهج، وفي التنزيل: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً).
وأنهج الطريق: وضح واستبان، وصار نهجا واضحا بينا.
والمنهاج الطريق الواضح، ونهجت الطريق: أبنته وسلكته، والنهج: الطريق المستقيم.
فالمنهج هو الطريق الواضح” .
أما في الاصطلاح: “فهو الطريق المؤدي إلى التعرف على الحقيقة في العلوم، بواسطة طائفة من القواعد العامة، والتي تهيمن على سير العقل، وتحدد عملياته، حتى يصل إلى نتيجة معلومة” .
أما معنى الاستدلال في اللغة فهو: طلب الدليل، فيقال: “استدل عليه: طلب أن يدل عليه” .
أما في الاصطلاح فقد قال الكفوي رحمه الله: “الاستدلال في عرف أهل العلم: تقرير الدليل لإثبات المدلول” .
وقال عنه الباجي رحمه الله: “الاستدلال هو التفكر في حال المنظور فيه للعلم بما هو نظر فيه، أو لغلبة الظن إن كان مما طريقه غلبة الظن” .
ومما ينبغي معرفته فيما نحن بصدده أن مفهوم الاستدلال في الصنعة الأصولية يطلق ويراد به أحد معنيين كل منها له تعلق بمبحث منهج الاستدلال عند أهل السنة والحديث:
أحدهما: إقامة الدليل مطلقا من نص أو إجماع أو غيرهما .
والثاني: يطلق على نوع خاص بحيث لا يكون نصا ولا إجماعا فإفضاؤه إلى الحكم الشرعي يتم من جهة القواعد لا من جهة الأدلة المنصوصة .
ومن المهمات كذلك في هذا الباب تحديد الفرق بين النظر الطلبي والاستدلالي للحاجة إليه في الوصول إلى المقدمات التي تفضي إلى النتائج، لأن الاستدلال يختلف باختلاف المستدل له.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “والنظر نوعان:
أحدهما : النظر الطلبي، وهو النظر في المسألة التي هي القضية المطلوب حكمها ليطلب دليلها، فالناظر هنا ينظر في المطلوب حكمه، هل يظفر بدليل يدله على حكمه أو لا يظفر، كطالب الضالة، والمقصود قد يجده وقد لا يجده، فهذا النظر هو الذي لا يجامع العلم بل يضاده، لأن الناظر هنا طالب للعلم بالقضية، ولو كان عالما بها لم يطلب العلم، لأن ذلك تحصيل حاصل.
الثاني: النظر الاستدلالي، وهو النظر في الدليل والعلم به، المستلزم للعلم بالمدلول عليه ، فإذا تصور الدليل وتصور استلزامه للحكم على الحكم، وهو تصور الحد الأوسط المستلزم لثبوت الأكبر للأصغر..” .
فالاستدلال عند أهل السنة والحديث قائم على الأدلة الصحيحة والأصول المليحة مع مراعاة فهمها على مقتضى فهم الأسلاف رضوان الله عليهم.
قال الشاطبي رحمه الله: “فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل” .
ولذا فـ”من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك، بل مبتدعا، وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤه.
والمقصود بيان طرق العلم وأدلته، وطرق الصواب، ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا” .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه وعلى أن يعرف مراده باللفظ” .
قلت: وهذا جار كذلك على أصول وقواعد الاستدلال فلا بد من التثبت من كونها مقررة عند أهل العلم، كما يجب ضبط فهمها وتحديد مجالها؛ فتأمل.
والمقصود بناء صرح منهج الاستدلال على دعائم متينة وفهوم صحيحة، وإلا كان ما يتقرر من العقائد؛ وما يترتب من أحكام؛ وما يتفرع من أنظار؛ أشبه ما يكون بقوله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
ومن خلال ما مر يمكن أن نعرف منهج الاستدلال عند أهل السنة والحديث بالآتي: “أنه الطريق المستقيم المؤدي إلى التعرف على الحقيقة التي يتم بها تلقي الدين وتقرير العقائد واستنباط الأحكام الشرعية من خلال الأدلة العلمية والقواعد المرعية؛ بعد النظر فيها المستلزم للعلم بمقتضاها ومدلولاتها”.