في ظلال آية أبو يونس محمد الفرعيني

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
قال البغوي: قال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لأن في الغزو إحدى الحسنيين؛ إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة. {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} يعني القعود عن الغزو {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} لما فيه من فوات الغنيمة والأجر {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}. (معالم التنزيل 1/246).
وهذه الآية لها صلة بالإيمان بالقضاء والقدر، وهو أصل عظيم من أصول الإيمان. وسياق الكلام وإن كان على فريضة الجهاد في سبيل الله، فهو يتناول أمورا كثيرة كما هو مقرر عند العلماء.
فقد قال تعالى في سياق الحديث عن عشرة النساء: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
قال الشوكاني: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة، ولا نشوز {فَعَسَى} أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة، وتبدلها بالمحبة، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته، أي: فإن كرهتموهنّ، فاصبروا: {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}. (فتح القدير 2/107).
تبين من خلال هذه الآيات أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة والمكاره فيها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك.
وقد يقع للإنسان شيء من المصائب المفجعة والأقدار المؤلمة، التي تكرهها نفسه، فربما جزع وأصابه الحزن والغم، وظن أن ذلك المقدور هو نهايته وقاصمة ظهره، فإذا بذلك المقدور منحة في ثوب محنة، وعطية في رداء بلية، وكم من إنسان حرص على شيء ظاهره صلاح وخير وسعى إليه، وبذل الأسباب من أجل تحصيله والوصول إليه، فإذا بالأمر يأتي على خلاف حسبانه، فيه هلاكه وعطبه، وطول حزنه وألمه.
والناظر في قصص القرآن وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرى أمثلة كثيرة وشواهد عديدة على صدق ذلك ووقوعه.
ذكر ربنا قصة قتل الخضر للغلام بأمر الله تعالى، وعلل قتله بقوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80-81].
كم من امرأة حرمت الذرية، فاهتمت لذلك واغتمت، وسعت بكل وسيلة للحصول على الولد، وربما ضجرت وتسخطت. ولا تدري لعل الله صرف عنها ذلك رحمة بها. وكثير من الآباء كان أولادهم سببا في شقائهم وتعاستهم، بل منهم من يتمنى لو ووري التراب من شدة الأذى الذي ألحقه به بنوه.
وذكر الله قصة موسى عليه السلام لما أمرت أمه بإلقائه في البحر، فإنه أمر مكروه في الطباع، لكن الإيمان والتصديق يهون ذلك كله، فظهرت عواقبه الحميدة، وآثاره الطيبة في مستقبل الأيام، وصدق الله إذ قال: {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
وكذلك قصة يوسف عليه السلام وما جرى له من إلقاء إخوته له في الجب وحزن أبيه على فراقه، وإدخاله السجن. وكل هذا مكروه وشاق على النفوس، فكان في ذلك من الخير له ولإخوته ولأمته ما دلت عليه الآيات.
وفي الهجرة ومفارقة الأوطان بلاء ومشقة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرج نظر إلى مكة، فقال: «علمت أنك خير أرض الله وأحب الأرض إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت». ولكن الله جعل في ذلك خيرا كثيرا، فاجتمع إليه الناس، وقوي عود الإسلام، وعاد إلى مكة ودخلها فاتحا منصورا مظفرا.
وما وقع في صلح الحديبية من الخضوع لشروط أهل الشرك، وما في ظاهره من إعطاء الدنية في الدين، فلما لزم الأصحاب غرز صاحب الوحي جاء الفتح المبين والنصر العزيز.
وعن أم سلمة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها».
قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو أن كل من فقد حبيبه أو قريبه صبر واسترجع واتبع الأثر لأعقبه الله خيرا مما فاته، ولا يكون ذلك إلا مع الإيمان والتصديق. نسأل الله من فضله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *