بدع ومحدثات “ليس في الدين بدعة حسنة” نور الدين درواش

شاع عند كثير من الناس أن البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة وسيئة، وبَنَوا على هذا التقسيم استحسان كثير من العوائد والمحدثات، التي لم يشرعها الله سبحانه وتعالى لا في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة، ولم يجر عليها عمل السلف الصالح رضوان الله عليهم، وهذا التقسيم باطل “إذ البدع كلها ضلال ليس فيها هدى، قبيحة ليس فيها حسن، مذمومة ليس فيها ممدوح، وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة بذلك، كما دلت على ذلك أقوال سلف الأمة، وإنما قال بهذا التقسيم من لم يفهم مقاصد النصوص على حقيقتها وكلام السلف على وجهته، فاستدلوا ببعض الأحاديث وببعض الآثار المنسوبة إلى بعض السلف، وحملوها على غير المراد منها وزعموا أنها تدل على تحسين البدع” .

عن ‏الْعِرْبَاضِ ‏صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ‏ذَرَفَتْ ‏مِنْهَا الْعُيُونُ ‏وَوَجِلَتْ ‏مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟
فَقَالَ:‏‏ “أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي ‏ ‏وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ ‏الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا ‏ ‏بِالنَّوَاجِذِ،‏ ‏وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ ” ‏
وعَنْ ‏جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ‏قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، وَيَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَيَقْرنُ ‏بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ: ‏أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى ‏‏مُحَمَّدٍ ‏وَشَرُّ الأَُمُورِ ‏‏مُحْدَثَاتُهَا ‏وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ”
ومعلوم عند أهل اللغة أن لفظ “كل” من أقوى الألفاظ الدالة على العموم فهذا الحديث “محمول عند العلماء على عمومه، لا يُستثنى منه شيء البتة، وليس فيها ما هو حسن أصلا” .
إن أدلة التحذير من كل البدع جاءت مطلقة عامة ولم يقع فيها أي استثناء، وقد ثبت في الأصول أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكرر في مواضع كثيرة ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها وإعادة تقررها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم.
وهذا عين ما فهمه السلف رضوان الله عليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أجمعوا عليه..
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: “كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة” .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة” .
وفيما يلي مثال عملي يدل على تطبيق الصحابة لهذا الفهم، فعن عمرو بن سلمة قال: كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ‏ ‏قَبْلَ صَلاَةِ ‏ ‏الْغَدَاة،ِ ‏فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَنَا ‏أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ ‏ ‏أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ‏ ‏بَعْدُ؟
قُلْنَا لاَ فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُ ‏‏أَبُو مُوسَى:‏‏يَا ‏ ‏أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ‏إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلا خَيْرًا.
قَالَ: فَمَا هُو؟َ
فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ.
قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا، يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِي أَيْدِيهِمْ حَصًى، فَيَقُولُ كَبِّرُوا مِائَةً فَيُكَبِّرُونَ مِائَة،ً فَيَقُولُ هَلِّلُوا مِائَةً فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً.
قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟
قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ وَانْتِظَارَ أَمْرِكَ.
قَالَ: أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ؟
ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟
قَالُوا: يَا ‏ ‏أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ ‏‏حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ.
قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ ‏ ‏مُحَمَّدٍ، ‏مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ، هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏مُتَوَافِرُونَ،‏ ‏وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْل،َ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَر،ْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ ‏ ‏مُحَمَّدٍ، ‏أَوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلاَلَةٍ.
قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ‏مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ.
قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏حَدَّثَنَا‏ أَنَّ قَوْمًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ ‏‏تَرَاقِيَهُمْ، ‏‏وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ.
ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ فَقَالَ ‏عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ:‏ رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ ‏النَّهْرَوَانِ ‏‏مَعَ ‏‏الْخَوَارِجِ” .
فلاشك أن مثل هذه البدعة التي ألفى عليها عبد الله بن مسعود أصحاب الحلق تعتبر عند محسني البدع من البدع الحسنة، ومع ذلك وقف لها رضي الله عنه بالمرصاد وحاربها وشدد النكير على أصحابها.
وما أجمل ما نقله ابن الماجشون عن مالك أنه قال: “من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *