مضت معنا في الحلقة الماضية بعض قصص التعالم المشتهرة على الألسن، والتي دلت على جرأة وتجاسر من أصيب بلوثة التعالم على ما لم يحيطوا بعلم، وأشهر تلكم القصص قصة مفتي الخنفشار.
ثم قال الشيخ الدكتور بكر أبو زيد رحمه الله تعالى: تلكم هي قصة مفتي الخنفشار، ونحوها من المتشبعين بما لم يعطوا(1)، كنت أظنها من نسج الخيال، وضروب المحال، وواردات التاريخ التي تحكى ولا يعول عليها وأنها من باب التنكيب على قوم، والحط من آخرين، كما في كائنة(2) البغاددة مع البارودي وما بعدها.
وعلى أية حال فتلك أمة قد خلت وبأعمالها ارتهنت، لكن ونحن في الوقت الذي نعايش فيه علوم الاستمتاع بالخلاق(3) من الطبيعات، والمعدنيات والكيمياء وغيرها، وانصرف الناس إليها كالعنق الواحد، اندلعت قضية التعالم في الوجود لا سيما في صفوف المسلمين، وهي رمز للعدول عن الصراط المستقيم، وأضواء التنزيل، ووسيلة القول على الله العزيز الحكيم، فتجسدت أمامنا دولةٌ مادية قامت في ساحة المعاصرة على ما ذر قرنه(4) من الخوض في الشريعة بالباطل، وما تولد عنه من فتن تغلي مراجلها(5) على أنقاض ظهور الركالة لذهاب العلماء وقعود المتأهلين عن التحمل والبلاغ، وتولي ألسنتهم وأقلامهم يوم الزحف على كرامته.
فتبدت من وراء أولاء أمور دوابية(6)، وصدود عن منهاج النبوة الصدّيقية، إذ درجوا في الطرق الجائرة وتصيدوا من الرخص كل طريفة وتالدة(7) ونشروها بلسان الشريعة الخالدة.
وتبنى آخرون “النظرة التبريرية” لإدباب(8) ما جرى بين الأمة من فساد واختلال، وبدع وضلال، وتجاسر وفئام على الكذب الصراح، والكذب شر غوائل العلم، وحملوا الشاذ ومن حمله حمل شرا كثيرا، فربضت(9) في قلوبهم الشقوتان: شقوة الكذب، وشقوة الشذوذ. نسأل الله السلامة والعافية:
فبقى الذين إذا يقولوا يكذبوا ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا
فصار الناس بين علوم الاستمتاع، وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا.
وعلوم جنس الخوص بالباطل، فنتج من هذا تقلص في قائمة المتحملين لأعباء العلم الشرعي على هدى مستقيم، فلا بارك الله في هذا الطراز، وتبا لهم فما هم بعلماء، ونعوذ بالله من الفتن الصماء، وهنيئا لمن ارعوى ولازم الصدق والتقى، وليسع المرئ إلى فكاك رقبته من النار.
والمتلخص أن ظواهر الأحوال من رقة في الديانة، ووهن في الإستقامة، وضعف في التحصيل، والسعي بكل جد وراء الدنيا الزائلة، ومظاهرها الفانية، شكلت أمامنا ظاهرة التعالم أوسع من ذي قبل، لما نشاهده من واقعاتها الفجة، والدعاوى العريضة، والبراعة في الانتحال(10)، واتساع الخطوة إلى المحال.. وعندنا على هذا ألف شاهد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور” أخرجه البخاري (5219) ومسلم (2129).
2- كائنة: حادثة.
3- الخلاق:الحظ والنصيب من الخير.
4- ذر قرنه: انتشر جانبه وأمْرُه.
5- مراجلها: جمع مرجل وهو القدر الكبير.
6- دوابية: نسبة إلى الدواب.
7- طريفة وتالدة : جديدة وقديمة.
8- لإدباب: أي لجعله يسري وينتشر.
9- ربضت: أي أقامت وتمكنت.
10- الانتحال: هو ادعاء الشخص شيئا لنفسه وهو لغيره.