إخلاص الإخلاص (2/2)

-7 استواء كتم الحسنات بكتم السيئات من علامات إخلاص الإخلاص، فإذا كان المسلم يتضايق ويتململ من انتشار حسنته بين الناس مثل تضايقه من انتشار سيئته بينهم فهو على خير.
جاء عن ابن حازم أنه قال: «اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك»(1).
-8 ولا يدخل في هذا الموضوع من ترك العمل لأجل الناس ظناً منه أنه من الإخلاص، قال الفضيل: «ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما»(2).
-9 هذا الموضوع قد يمتد معك حتى بعد موتك، قال بشر بن الحارث: «قد يكون الرجل مرائياً بعد موته يحب أن يكثر الخلق في جنازته»(3).
فيعمل الأعمال الصالحة وربما يخلص فيها، لكنه يتمنى أن يذكره الناس بعد موته بتلك الأعمال التي قام بها في حياته.
-10 هنا مسألة مهمة ألا وهي أنه إذا كان العمل لله وشاركه الرياء:
إذا شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه، أما إذا كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء فإن كان خاطراً ودفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فيبطل إذا كان العمل يرتبط أوله بآخره مثل الصلاة والصيام، وأما ما لا يرتبط ببعضه مثل القراءة والذكر فإنه يبطل بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية(4).
ونختم هذا الموضوع ببستان جميل من قصص السلف الصالح في هذا الباب، لعلها تنبه غافلاً أو تذكر ناسياً، فمن هذه القصص:
تقول سريّة للربيع بن خثيم: «أنه كان يدخل على الربيع الداخل وفي حِجره المصحف فيغطيه»(5).
وجاء عن الأعمش أنه قال: «كان عبد الرحمن بن أبي ليلى، يصلي فإذا دخل الداخل نام على فراشه»(6).
وعن حماد بن زيد قال: «كان أيوب في مجلسه فجاءته عَبرة، فجعل يمتخط ويقول: ما أشد الزكام»(7).
وعن ابن واسع أنه قال: «إن الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم»(8).
وجاء عن عاصم أنه قال: «كان أبو وائل إذا صلى في بيته ينشج نشيجاً، ولو جُعلت له الدنيا على أن يفعله وأحدٌ يراه ما فعله»(9).
وعن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال: «إذا كان المرء يحدّث في مجلس فأعجبه الحديث فليمسك، وإذا كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليتحدث»(10).
وجاء عن سهل بن منصور أنه قال: «كان بِشر يصلي فيطوّل، ورجل وراءه ينظر ففطن له، فلما انصرف (أي سلّم) قال: لا يعجبك ما رأيت مني، فإن إبليس قد عَبَدَ الله دهراً مع الملائكة»(11).
وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة(12).
وقال عون بن عبد الله في نصيحة للمتصدقين والمنفقين: «إذا أعطيت المسكين فقال لك بارك الله فيك فقل أنت: بارك الله فيك، حتى تخلص لك صدقتك»(13).
وجاء عن مقدم برنامج «صفحات من حياتي» الذي تقدمه قناة المجد، الأخ فهد السنيدي، أنه طلب لقاء من الشيخ محمد بن سبيّل رحمه الله ليتكلم عن سيرته، فقال: «يا فهد، سيرتنا وأعمالنا الظاهرة هذه يعرفها الناس، وأما أعمالي الخفية فلا يمكنني أن أتحدث عنها».
وهذا غيض من فيض، نسأل الله تعالى الإخلاص في حركاتنا وسكناتنا، وأن يعاملنا بعفوه ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(1) السير (6/100).
-(2) نفس المصدر السابق (8/427).
-(3) نفسه (10/473).
-(4) جامع العلوم والحكم (37).
-(5) السير (4/260).
-(6) نفسه (4/264).
-(7) نفسه (6/20).
-(8) نفسه (6/122).
-(9) نفسه (4/165).
-(10) نفسه (6/10).
-(11) نفسه (8/361).
-(12) صفة الصفوة (3/492).
-(13) حلية الأولياء (4/253).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *