خطوات الاستدلال بالدليل عند أهل السنة والحديث مراعاة أحكام النسخ وفق الدرس الأصولي -الحلقة الثانية- رشيد مومن الإدريسي

ينقسم النسخ باعتبار الرسم والحكم إلى ثلاثة أقسام:
نسخ رسم الآية مع بقاء حكمها: مثال ذلك: آيُ الرجم وهي قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم).
كما ثبت التنويه بهذه الآية عن عمر -رضي الله عنه- في خطبته في الصحيحين.
نسخ الحكم وبقاء التلاوة: وهو الأكثر، كنسخ آية الاعتداد بالحول (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) (البقرة:240) نسخت بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر.
نسخ رسم الآية وحكمها معا: مثال ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن فيما يقرأ من القرآن1.
فآية التحريم بعشر رضعات منسوخ رسمـــها وحكمها، وآية التحريم بخمس رضعات منسوخ رسمها دون حكمها، فقد اجتمع في هذا الحديث مثالان:
منسوخ التلاوة والحكم.
منسوخ التلاوة دون الحكم.
انقسام النسخ بالنظر إلى دليله:
ينقسم النسخ بالنظر إلى دليله إلى أقسام كثيرة يمكن جمعها في قسمين:
قسم متفق على جوازه، وقسم وقع فيه الخلاف.
أما القسم المتفق عليه فهو:
أولا: نسخ القرآن بالقرآن:
ومن أمثلته (كما مر معنا) آية العدة.
ثانيا: نسخ السنة المتواترة والآحادية بمتواتر السنة:
ومن أمثلة ذلك وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره به مما مسته النار وترك الوضوء منه، فإنهما يتعارضان، ويُدفع التعارض بأن الحديث الثاني ناسخ للحديث الأول.
ثالثا: نسخ الآحاد من السنة بالآحاد من السنة:
ومن أمثلته حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور..) الحديث.

وأما القسم المختلف فيه فيمكن بيانه في ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: نسخ القرآن بالسنة (المتواترة)
ذهب جمهور الأصوليين على أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة. وهو اختيار الأمين الشنقيطي -رحمه الله- وهو الصواب؛ ومن أمثلته آية التحريم بعشر رضعات نسخت بالسنة (كما مر معنا).
المسألة الثانية: نسخ السنة بالقرآن
ذهب جمهور الأصوليين على أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن، وهذا اختيار ابن النجار الفتوحي والأمين الشنقيطي  -عليهما رحمة الله- ومن الأمثلة على ذلك، تحريم مباشرة النساء في رمضان ليلا ثابت بالسنـة، و ناسخه في القرآن قوله تعالى: (فالآن باشروهن).
المسألة الثالثة: نسخ المتواتر بالآحاد
ينسب إلى جمهور الأصوليين أنه لا يجوز نسخ المتواتر -من القرآن والسنة- بالآحاد من السنة شرعا، وهذا راجع إلى اشتراط التساوي في القوة بين الناسخ والمنسوخ، وهناك من جوز ذلك ورد على ما ينسب للجمهور ومنهم العلامة الشنقيطي رحمه الله.
واعلم أن الجمهور يقولون بجواز نسخ المتواتر -من القرآن والسنة- بالآحاد من السنة عقلا، لكن لا يجوز ذلك شرعا  لعدم وقوعه فتنبه.
مبــــاحث في النسخ
اعلم أن النسخ بالنظر إلى وقته ينقسم إلى نسخ بعد التمكن من الفعل، وهذا هو الغالب في الأحكام المنسوخة، كاستقبال بيت المقدس، وعدة المتوفى عنها زوجها حولا كاملا.
وإلى نسخ قبل التمكن من الفعل كقصة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وأمره بذبح ولده.
واعلم -كذلك- أن النسخ بالنظر إلى البدل ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: نسخ إلى بدل كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام، وهذا القسم متفق عليه بين العلماء، وهو الموافق لظاهر قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها) فالآية تدل دلالة صريحة على أن النسخ لابد فيه من البدل.
والقسم الثاني: نسخ إلى غير بدل. وهو مذهب جمهور الأصوليين ومثلوا له بنسخ إيجاب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلقد كان المؤمنون مأمورين أولا ألا يخاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحد منهم إلا إذا قدم صدقة، ثم نسخ بعد هذا، فيكون النسخ هنا إلى غير بدل.
والنسخ إلى بدل لا يخلو من واحد من ثلاثة أقسام:
إما أن يكون الناسخ أخف من المنسوخ  أو مساويا له  أو أثقل منه. ولا خلاف في جواز القسمين الأولين، وأما الثالث فالقول بجوازه قول الجمهور والأمثلة كالآتي:
النسخ إلى بدل أخف: نسخ قوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين)، بقوله: (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) فإيجاب مصابرة الواحد للاثنين أخف من إيجاب مصابرته للعشرة.
النسخ إلى بدل مساو: نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة بقوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) فاستقبال الكعبة مساو لاستقبال بيت المقدس بالنسبة لعقل المكلف.
النسخ إلى بدل أثقل: نسخ التخيير بين صيام شهر رمضان والإطعام بتعين صيامه، فتعين الصيام أثقل من التخيير وبين الإطعام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

    1. 1. وقولها: (وهن مما يقرأ من القرآن) ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك فإنه غير موجود في المصحف العثماني، وأجيب بأن المراد قارب الوفاة انظر” الإتقان” للسيوطي -رحمه الله- (2/21).

والأظهر أن التلاوة نسخت ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتوفي وبعض الناس يقرؤها. انظر: مباحث في علوم القرآن (ص:244) وحكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم إنكار هذا القسم (أي الثالث) لأن الأخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال القرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها تفيد القطع ولكنها ظنية.
ويجاب على ذلك بأن ثبوت النسخ شيء، وثبوت نزول القرآن شيء آخر، فثبوت النسخ يكفي فيه الدليل الظني بخبر الآحاد، أما ثبوت نزول القرآن فهو الذي يشترط فيه الدليل القطعي بالخبر المتواتر والذي معنا ثبوت النسخ لا ثبوت القرآن فيكفي فيه أخبار الآحاد، ولو قيل إن هذه القراءة لم تثبت بالتواتر لصح ذلك. انظر: مباحث في علوم القرآن (245-244).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *