الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحـج:11).
قال مجاهد، وقتادة، وغيرهما: {عَلَى حَرْفٍ}: على شك.
وقال غيرهم: على طَرَف. ومنه حرف الجبل، أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر، وإلا انتشر.
وفي فتح القدير (5/98): (وأصله من حرف الشيء وهو طرفه، مثل حرف الجبل والحائط، فإن القائم عليه غير مستقرّ، والذي يعبد الله على حرف قلق في دينه على غير ثبات وطمأنينة كالذي هو على حرف الجبل ونحوه يضطرب اضطراباً ويَضْعُفُ قيامُه، فقيل للشاكّ في دينه: إنه يعبد الله على حرف؛ لأنه على غير يقين من وعده ووعيده، بخلاف المؤمن؛ لأنه يعبده على يقين وبصيرة فلم يكن على حرف).
في صحيح البخاري (14/385) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ({وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قال: كان الرجل يَقْدُمُ المدينةَ فإن ولدت امرأته غلاما ونُتِجَت خيله قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء).
فهذا حال كثير من ضعاف الإيمان وأهل النفاق؛ ولقد كان المنافقون يتربصون بأهل الإيمان؛ فإن نصرهم الله على عدوهم جاءوا ليكون لهم حظ في الغنيمة، وإن كانت للكافرين جولة تقربوا إليهم وكشفوا عن وجوههم الكالحة. قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النساء:141)، قال الله تعالى بعدها: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء:143).
أما أهل الإيمان فثابتون يعبدون الله طمعا في رضاه وخوفا من سخطه، ويعلمون أن وعد الله حق، وأن الجنة حق والنار حق وأن الله يبعث من في القبور.
فلا خير في طاعة جاءت عن تقليد وحماسة، ولا عبادةٍ بغير إيمان ويقين.
ومن الأبيات القبيحة السائرة قول بعضهم:
قال المنجِّم والطبيب كلاهما لا تُحشَر الأجسادُ قلتُ إِلَيْكُمَا
إن صحَّ قولُكما فلستُ بخاسرٍ أو صحَّ قَوْلي فالخسارُ عَلَيْكُمَا
وقول آخر:
أما اليقين فـلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا
فهذا لا يعد إيمانا صحيحا؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات:15).
ولا يلزم من الطاعة حصول المنافع والأرزاق ولا اندفاع الفاقة والأسقام، كما يظن عامة الناس -وإن كان الله يعجل بعض الخير لأهل الطاعة- ولا يلزم من المعصية تعجيل العقوبات والهلاك ولا تسليط الفقر والآفات، -وإن كانت تنزل بعض القوارع بأهل المعصية تأديبا وتذكيرا- فإن من حكمة الله البالغة أن يبتلي عباده بالخير والشر؛ قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء:35). ومن حكمته أن جعل أكثر البلاء في أصفيائه؛ كما في الحديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل..). فقد فتن الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم وخيرة الخلق فما بدَّلوا ولا غيَّروا، لأنهم كانوا على يقين أنهم على الهدى المستقيم.
واعلموا أن لهذه الآية شواهد في الواقع؛ فكم رأينا من أناس لا ينشطون لطاعة إلا إذا أعطوا عرضا من الدنيا عليها، فإن حُرِموه تَوَلَّوا وهم لا يلوون على شيء، ولا يصومون إلا إذا علموا فوائد الصوم على أبدانهم، ولا يجاهدون إلا إذا طمعوا في الفيء، ولا يتركون الفواحش إلا خوفا من الأمراض، ولا السرقة إلا خوفا من الفضيحة، وهكذا في صور كثيرة يمكن أن تندرج تحت هذا الباب.
ومن الناس من يغير قناعاته وينظر في مسلماته كلما بدا له مطمع، أو خامرته رغبة أو رهبة، وربما سوغ لنفسه هذا المرتع الوخيم متعللا بتغير الفقه والفتوى وتجدد المناطات واختلاف الفقهاء وغير ذلك.
وهذه كلها أمور لها ضوابطها الدقيقة التي لا ينبغي أن يتقحمها إلا أهلها، ولا يجوز لمن كان قليل المعرفة ضعيف الفقه أن يتلاعب بقواعد أهل العلم، فإنه لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف.
فاللهم ألهمنا رشدنا وثبتنا على الهدى حتى نلقاك وأنت راض عنا، وأجرنا من مضلات الفتن، لا عاصم إلا أنت، لا رب سواك.