وقفات مع كتاب التعالم -أمثلة المتعالمين في السير والتاريخ- إعداد: عابد عبد المنعم

في كتب المحاضرات أن رجلا كان يفتي كل سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه، فأجمعوا أمرهم لامتحانه، بنحت(1) كلمة ليس لها أصل هي “الخنفشار” فسألوه عنها، فأجاب على البديهة: بأنه نبت طيب الرائحة ينبت بأطراف اليمن إذا أكلته الإبل عقد لبنها، قال شاعرهم اليماني:

لقد عقدت محبتكم فؤادي كما عقد الحليب(2) الخنفشار
وقال داود الأنطاكي في تذكرته كذا، وقال فلان وفلان…. وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فاستوقفوه وقالوا كذبت على هؤلاء، فلا تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وتحقق لديهم أن ذلك المسكين: جراب كذاب، وعيبة(3) افتراء في سبيل تعالمه، نسأل الله الصون والسلامة.
ومن الخنفشاريين: خبير النعنع، ففي مُلح التاريخ كما ذكر السخاوي: أن جُهَنيا كان في ندماء المهبلي، وكان يأتي بالطامات(4) فجرى مرة حديث في النعنع فقال: في البلد الفلاني نعنع يطول حتى يصير شجرا ويعمل من خشبه سلالم، فثار منه أبو الفرج الأصبهاني صاحب (الأغاني) فقال: نعم عجائب الدنيا كثيرة ولا ينكر هذا، والقدرة صالحة، وأنا عندي ما هو أغرب من هذا: أن زوج الحمام يبيض بيضتين فآخذهما وأضع تحتهما سنجة مائة، وسنجة خمسين -السنجة كفة الميزان- فإذا فرغ زمن الحضانة انفقست السنجتان عن طست وإبريق، فضحك أهل المجلس، وفطن الجهني لما قصد به أبو الفرج من “الطنز”(5)، وانقبض عن كثير من حكاياته. اهـ
ومنهم الهروي: شمس ابن عطاء الرازي المتوفي سنة 887 هـ، كان من أعوان تيمورلنك، وكان عريض الدعوى في الحفظ، فاستعظم الناس ذلك، فجعل له مجلس لإمتحانه وكان من جملة ما سئل عنه حينئذ: هل ورد النص على المغرب تقصر في السفر؟ فقال نعم، جاء ذلك في كتاب “الفردوس” لأبي الليث السمرقندي، فلما انفصلوا ورجعوا على كتاب أبي الليث لم يجدوا فيه ذلك، فقيل له في ذلك؟ فقال: الحديث في الكبرى، ولم تدخل الكبرى في هذه البلاد، فاستُشعر كذبه من يومئذ، وقد ساقها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في ترجمته له، هكذا فليكن كذب المتعالمين.
ومنهم الجوباري: أحمد بن عبد الله الجوباري إذ بلغ من كذبه وتغفيله أنه لما ذكر له اختلاف المحدثين في سماع الحسن البصري من أبي هريرة رضي الله عنه ساق بإسناده قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمع الحسن من أبي هريرة !
وصدق الزهري إذ يقول: الكذب شر غوائل(6) العلم”..
وهذا مقاتل بن سليمان المتوفي سنة 150 هـ: فإنه من علمه ابتلي بشي من ذلك فقد قيل أنه قال: سلوني عما دون العرش، فقالوا: أين أمعاء النملة؟ فسكت، وسألوه: لما حج آدم، من حلق رأسه؟ فقال: لا أدري. ولهذا قال الذهبي رحمه الله “أجمعوا على تركه” اهـ.
وفي “الصباحي” قال مؤلفه ابن فراس: بعد أن قرر القول بوقف لغة العرب: (ثم الأمر قراره، فلا نعلم لغة من بعده حدثت، فإن تعمل(7) اليوم متعمل، وجد من نقاد العلم من ينفيه ويرده، ولقد بلغنا عن أبي الأسود الدؤلي أن امرأ كلمه ببعض ما أنكره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه، فقال هذه لغة لم تبلغك، فقال له يابن أخي إنه لا خير لك فيما لم يبلغني، فعرفه بلطف أن الذي تكلم به مختلق(8)) اهـ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- نحت الكلمة : أخذها وركبها من كلمة أو كلمتين
2- عقد الحليب : أي جعله يغلظ
3- عيبة : وعاء جمعه عيب وعياب
4- الطامات : جمع طامة وهي الداهية، والمقصود الأكاذيب المعتمدة
5- الطنز : السخرية
6- الغوائل جمع غائلة: المصيبة والداهية.
7- تعمل : اختلق شيئا لم يسمع من العرب.
8- مختلق : مكذوب مفترى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *