الحزبية المقيتة “ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب”

مما هو معلوم عند العقلاء فضلا عن العلماء أن الأصل: لزوم الجماعة, وتحريم الفرقة والانسلال عن ربقة الوفاق التي تؤول بالأمة إلى التحزب المقيت.

التحزب لغة
قال صفي الرحمن المباركفوري: “الحزب لغة: صنف من الناس تجمعهم صفة جامعة أو مصلحة شاملة من رابطة العقيدة والإيمان أو الكفر والفسق والعصيان, أو رابطة الأرض والوطن، أو القبيلة والنسب، أو المهنة واللغة، أو ما يشاكلها من الروابط والأوصاف والمصالح التي اعتاد الناس أن يجتمعوا عليها ويتكثلوا حولها” الأحزاب السياسية في الإسلام 7.
فالتحزب إذن هو التجمع على شيء معين, يقال للجماعة من الناس: حزب.

التحزب المحمود والمذموم
التحزب قد يكون محمودا, وقد يكون مذموما.
فالمحمود ما كان لجماعة المسلمين الذين انتظم جمعهم بإمام ظاهر على وفق الحق, فهؤلاء هم حزب الله الذين قال الله فيهم: “أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”.
أما التحزب المذموم فهو الخروج عن جماعة المسلمين إلى تجمعات أخرى تلتقي على مفارقة الجماعة والشذوذ عن الولاية واتباع الهوى ومخالفة الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، فهؤلاء من حزب الشيطان كما قال تعالى: “أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ”.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب, أي تصير حزبا فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل: التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل, والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق أو الباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أمرا بالجماعة، والائتلاف ونهيا عن الفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان” الفتاوي 11/92.

الحزبية المقيتة: فرقة منهي عنها
الحزبية ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف الصالح القائمة على الولاء ولو للباطل, والبراء ولو من الحق, المتسمة بالانحراف عن القرآن والسنة وما كان عليه سلف الأمة: فرقة منهي عنها فكم أوهنت حبل الاتحاد الإسلامي، وغشيت المسلمين بسببها الغواشي.
أي شيء نراه داء عضالا مثل ما في البلاد من أحزاب
يزعم الكل أنه في طريق سار فيه الرسول بالأصحاب
فرقوا الدين ثم جاءوا بشيء ليس في سنة ولا في كتاب
قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ”.
قال السعدي رحمه الله في تفسير اللآية: “يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم، أي: شتتوه وتفرقوا فيه، وكلٌّ أخذ لنفسه نصيبا من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية. أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأمة.
ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية.
وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال: “لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ” أي لست منهم وليسوا منك، لأنهم خالفوك وعاندوك” تيسير الكريم الرحمن 2/91-92.
وقال الحسن رحمه الله: (خرج علينا عثمان رضي الله عنه يوما يخطبنا, فقطعوا عليه كلامه, فتراموا بالبطحاء حتى جعلت ما أبصر أديم السماء, قال: وسمعنا صوتا من بعض حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: هذا صوت أم المؤمنين -قال القاضي إسماعيل: أحسبها أم سلمة رضي الله عنها-, قال فسمعناها وهي تقول: (ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب) وتلت: “إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ”) الاعتصام 1/80.
ومن مشاهير السنن في الصحيحين وغيرهما قوله عليه الصلاة والسلام: “لا حلف في الإسلام”.
قال الشيخ مصطفى وصفي رحمه الله: “لا حلف في الإسلام, ومن أجل هذا العقد العام -أي عقد الإسلام والالتزام به، أوامره ونواهيه- قرر الفقهاء أنه لا حلف في الإسلام, وكفى بعقد الإسلام حلفا, فلضرورة المساواة بين المسلمين في هذا العقد العام لا يجوز أن يتحالف بعض المسلمين من دون بعضهم الآخر, إذ إن ذلك يميز الحلفاء على سائر المسلمين, ويجعل لهم حقوقا ليست لسائرهم, هذا ولو لم يكن تحالف البعض نكاية في البعض الآخر.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك, فأقر ما تم من أحلاف الجاهلية, كحلف المطيبين, وقال: لا حلف في الإسلام أو لا تحالف في الإسلام وهو متفق عليه, وفي أكثر من مناسبة” مصنفة النظم الإسلامية 331.
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد معلقا: “فانظر قوله السديد, وتعليله السليم: (لأن مجرد التمييز بمحالفة خاصة, يضع غير الحليف في مكان أدنى من الحليف).
وهكذا الانتماء إلى الفرق المعاصرة, يجعل المنتسب إليها في مكان فوق غيره -في نظرهم-” حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية 123.

من أعظم مضار الحزبية المقيتة
لا شك أن المرء إذا كان متحزبا مندرجا تحت لواء الحزب، أنه يعمل ضمن ضوابطه وأسسه, وهذه الضوابط تقيد العضو فيها من التحرر من كثير من باطل الحزب وأخطائه إذا ظهر له ذلك, وأقل أحواله السكوت مراعاة لتوهم مصلحة الحزب, والتي ربما توهم أنها متلازمة مع مصلحة الإسلام!!
وعليه كان من أعظم مضار الحزبية المقيتة: أنها صارفة عن الحق والهدى.
ولهذا نجد الإمام ابن قتيبة رحمه الله عند حديثه عن أسباب عدم الانقياد للحق ذكر من ذلك: خوف تفرق الحزب, وانفراط عقد نظامه, فيؤخر قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويتقدم بين يديه من أجل الحزب.
فقال رحمه الله: “وفي ذلك -يعني قبول نصيحته- أيضا تشتيت جمع وانقطاع نظام واختلاف إخوان، عقدتهم له النحلة والنفوس, بل تطيب بذلك إلا من عصمه الله ونجاه” الاختلاف في اللفظ 21.
فالحذر الحذر من أحزاب وطوائف طاف طائفها, ونجم بالشر ناجمها، فما هي إلا كالميازيب, تجمع الماء كدرا وتفرقه هدرا, إلا من رحمه الله وسار على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *