إن من أعظم المصائب التي نزلت بالمسلمين مند العصور الأولى وفي هذا العصر بالذات انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بينهم، وقد أدى انتشارها إلى مفاسد كثيرة منها اعتقاد بعض الناس بعقائد فاسدة مثل سؤال الجن والأموات قضاء الحاجات؛ والتوسل بالقبور والأضرحة والذبح لها؛ والالتجاء إليها والاعتماد عليها دون الله سبحانه وتعالى.
كما سببت بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة ارتكاب بعض الناس للبدع وتمجيدها وكأنها هي شرع الله عز وجل.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار” رواه مسلم وغيره.
فالواجب أن نعمل على تصفية السنة النبوية مما دخل إليها من أحاديث ضعيفة وموضوعة لكي لا ننقل عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلا ما توثقنا من صحته، وفي هذا يقول الإمام الدارقطني رحمه الله في مقدمة كتابه الضعفاء والمتروكين: “توعد رسول الله عليه وسلم بالنار من كذب عليه بعد أمره بالتبليغ عنه، ففي ذلك دليل على أنه إنما أمرَ أن يُبلَّغ عنه الصحيح دون السقيم، والحق دون الباطل، لا أن يُبلَّغ عنه جميع ما رُوي، لأنه قال -صلى الله عليه وسلم-: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» أخرجه مسلم. فمن حدث بجميع ما سمع من الأخبار المروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يميز صحيحها وسقيمها، وحقها من باطلها؛ باء بالإثم، وخيف عليه أن يدخل في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم”.اهـ
وقال الإمام النووي في شرح مسلم (1/70): “أنه لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك، فكله حرام من أكبر الكبائر، وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع”.
وقال العلامة أحمد شاكر في “الباعث الحثيت” ص 101: “وأما ما قاله أحمد بن حنيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك: “إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا”، فإنما يريدون به -فيما أرجح، والله أعلم- أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة، فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن، لم يكن في عصرهم مستقراً واضحاً، بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة أو بالضعف فقط:
ويقول المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه: غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام:
“ولئن كان بعض الناس يتساهلون فيذهبون إلى القول بأن الحديث الضعيف يُعمل به في فضائل الأعمال -وهو قول مرجوح عندي، تبعاً لكثير من كبار أئمتي- فلا أحد والحمد لله يذهب إلى جواز الاحتجاج بالحديث الضعيف في الأحكام الشرعية، بل أجمعوا على أنه يجب أن يكون من قسم المقبول، وأدناه الحسن لغيره.
وحتى الذين أجازوا العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال وضعوا شروطاً قيدوا بها هذا الجواز، وهذه الشروط أوضحها الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (1) وهي:
الأول: متفق عليه، وهو أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين، والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.
فالحديث الضعيف جداً أو الموضوع أو المنكر أو غير ذلك مما دون الضعيف، فلا خلاف أنه لا يجوز العمل به حتى في فضائل الأعمال.
الثاني: أن يكون مندرجاً تحت أصل معمول به.
الثالث: أن لا يُعتقد عند العمل به ثبوته، بل يُعتقد الاحتياط لئلا يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل.
وهذه شروط دقيقة وهامة جداً، لو التزمها العاملون بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال لكانت النتيجة أن تضيق دائرة العمل بها، وربما تُلغى من أصلها.
(وإذا أردت أن تعرف كيف يكون ذلك، فعليك بقراءة شرح هذه الأمور في مقدمة صحيح الجامع الصغير للألباني صـ 53-55).
والحقيقة أن الذي ينظر في الأحاديث الصحيحة الواردة في فضائل الأعمال يجد أنها تغني عن تلك الضعيفة، ونسد بذلك باباً فُتح علينا لسنا بحاجة إليه -ما دام أن في الصحيح كفاية- فضلاً عن الوقت الذي يُضاع في تمييز هل الحديث الضعيف المروي في فضائل الأعمال مطابق للشروط السابقة أم لا؟ فنحن بحاجة إلى هذا الوقت أشد الحاجة.
كما أن إجازة العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال جعل كثيراً من العامة يستهينون برواية الحديث الضعيف،لأنهم يسمعون الخطيب أو الواعظ يروي الحديث الضعيف وقد يشير إلى ضعفه دون أن يبين شروط جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال -كما تقدم- وأنه لا يجوز الأخذ به في العقائد والأحكام فينتج عن ذلك أنه يعتقد بعض الناس -وربما بعض طلاب العلم- أنه لا حرج في رواية الحديث الضعيف على كل حال ما دمنا نبين ونشير إلى ضعف الحديث، وهذا الباب الذي دخل منه أكثر من يستهين برواية الحديث الضعيف.
قال العلامة الألباني رحمه الله (تمام المنة ص:36) في بيان هذه الشروط:
(من المؤسف أن نرى كثيراً من العلماء فضلاً عن العامة متساهلين بهذه الشروط، فهم يعملون بالحديث الضعيف دون أن يعرفوا صحته من ضعفه، وإذا عرفوا ضعفه لم يعرفوا مقداره، وهل هو يسير أو شديد يمنع العمل به) اهـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر تدريب الراوي 1/298-299 وفتح المغيث 1/268.