وقفات مع كتاب التعالم ظواهر التعالم إعداد: عابد عبد المنعم

بعد أن ذكر الشيخ خطر التجاسر على الفتوى وخوف العلماء والأئمة من اقتحام هذا المعترك الخطير، وكشف لنا عن صور مشرقة خوف العلماء من دخول هذا المعترك الشيخ بكر رحمه الله تعالى كيف أن الأئمة مع جلالة قدرهم، ووافر حرمتهم، وضخامة مسؤلياتهم بعضهم، ذابت هذه الظواهر في عظيم تقواهم، وما نقصهم بل بقوا عناوين افتخار لهذه الأمة, لما كسرَ سلطانُ التقوى لديهم تلك الحواجز المادية والولايات العارضة.

ثم قال الشيخ رحمه الله: قال شيخ الإسلام ابن تيمية النميري رحمه الله تعالى: “والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالما مجتهدا عالما مجتهدا, ولو كان الكلام في العلم في الدين بالولاية والمنصب لكان الخليفة السلطان أحق بالكلام في العلم والدين, وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدين, فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدعي ذلك لنفسه, ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فمن هو دون السلطان في الولاية أولى ألا يتعدى طوره..” اهــ (الفتاوى 27/269-297).
قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه الإعتصام 2/81 ما نصه: وكذلك تقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح بطريق التوريث هو من قبيل ما تقدم، فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتياً في الدين، ومعمولاً بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها محرم في الدين، وكون ذلك يتخذ ديدناً حتى يصير الإبن مستحقاً لرتبة الأب وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب بطريق الوراثة أو غير ذلك، بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي لا يخالف بدعة بلا إشكال، زيادة إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم، وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأتي تفسيره إن شاء الله، وهو الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا” وإنما ضلوا لأنهم أفتوا بالرأي إذ ليس عندهم علم. اهـ.
وقال أيضا (2/83): “أما قلة العلم وظهور الجهل فبسبب التفقه للدنيا، وهذا إخبار بمقدمة أنتجتها الفتيا بغير علم -حسبما جاء في الحديث الصحيح: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس” إلى آخره- وذلك أن الناس لا بد لهم من قائد يقودهم في الدين بجرائمهم، وإلا وقع في الهرج وفسد النظام، فيضطرون إلى الخروج على رأيه في الدين لأن الفرض أنه جاهل، فيضلهم عن الصراط المستقيم: كما إنه ضال عنه. وهذا عين الابتداع، لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنة.
ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل العلماء، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فتؤتى الناس من قبله، وسيأتي لهذا المعنى بسط أوسع من هذا إن شاء الله. اهــ.
واعلم يا أخي بارك الله فيك وفي علمك, وعلمنا جميعا مالم نكن نعلم: أنه قد جرت سنة الأجلة من العلماء على التورع في: الفتيا، والبحث, والتأليف, والمناظرة, وما جرى مجرى ذلك، وفي حضار العلم(1) وفنونه, ترى العالم مع جلالة قدره وعلوم منزلته ينفي علنه في مواضع, ويتوقف في أخرى, ويرجع من قول إلى آخر للتقوى, فيكون هذا من عظيم قدره, وجلالة شأنه, ولاينقص من علمه.
وأسوق أمثلة لهذا تطييبا للناظري, ويعقلها العالمون:
1- قصة الإمام مالك رحمه الله تعالى: مشهورة في عشرات المسائل التي سئل عنها فلم يجب إلا عن القليل منها ومع ذلك إذا ذكر العلماءُ مالك: النجم، ووقعت لغيره من العلماء.
2- والإمام الشافعي رحمه الله تعالى علق الحكم على صحة الحديث, وقد جمعها الحافظ ابن رجب في كتاب مفرد مع الكلام عليها.
3- وهذا الإمام أبو حاتم والشهير بابن حبان: محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي, (م.سنة 354 هـ) رحمه الله تعالى, لما ألف كتابه الثقات ساق تراجم توقف فيها, وأخرى قال لا أدري من هو ولا من هو أبوه.
4- والحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: له في مواضع, توقف في مسائل, وتعليق لأحكام على ثبوت النص ونحو ذلك، وقد ذكرت طرفا في ترجمته وفي (التقريب 1/96-97) وفي (حديث العجن ص:84).
5- وللحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في مسائل منها:
– توقفه في المفاضلة بين أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
– وتوقف في حال عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما.
– وساق أثرا ثم قال ما فهمته..
ومازال هذا المسلك سنة ماضية، يتوارثه العلماء ديانة على تتابع العصور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- حضار العلم: مجالسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *