مسألة تطبيق الشريعة تمييز ابن تيمية بين “إرادة الشعب” و”التدرج” (2)

ذكرنا في العدد السابق، في ختام المقال، أننا سنبين أربعة أخطاء وقع فيها كثيرون ممن تكلموا في مسألة التدرج في تطبيق الشريعة، وهذه الأخطاء هي:
الخطأ الأول: أنهم توهموا النزاع منحصراً في “التدرج في تطبيق الشريعة”، وأنه ليس ثمة نزاع في “لزوم الشريعة بالقدرة والإمكان”، وهذا وهم وذهول، فمسألة التدرج خارج محل النزاع أصلاً، ولعل سبب هذا الوهم الاستعجال وعدم الاطلاع على الرسائل والبحوث التي انتصرت لسيادة الشريعة، فكل من انتصر لسيادة الشريعة من أهل العلم أشار إلى مشروعية التدرج صراحةً أو ضمناً، وأنه ليس هو موضع النزاع.
ومن نماذج ذلك:
أن “حالات الضرورة الاستثنائية لا تخرم مبدأ سيادة الشريعة بحال؛ وإنّما قد ترفع الإثم عن التأخر الاضطراري في إعلان تحكيم الشريعة، أو التدرج في تطبيقها؛ وهذه مسألة خارجة عن محل الإشكال (…) وبناء على رأي جمهور فقهاء العصر في مشروعية التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية، تمت مشاركة الحركات الإسلامية بالدول العلمانية في العمل السياسي ببلادهم”(1).
“ولا إشكال مع من يريد الوصول إلى الحكم بشكل تدريجي.. فهذا كله خارج محل النزاع”(2).
وهكذا كل من دافع عن سيادة الشريعة يقرر مشروعية التدرج، وأنه ليس موضع الاستنكار.
الخطأ الثاني: أنهم عرّضوا بأهل العلم والفضل الذين نصروا سيادة الشريعة، بادعاء أنهم يطعنون في من يتبنى التدرج بأنه قد أتى زوراً، وغشي فجوراً، وأنهم ظنوا به ظن السوء، ورموه بأنه منكر لوجوب الحكم بما أنزل الله، وأنه منافق؛ وهذا كله ظلم وبغي على أهل العلم.
وإنما موضع النزاع هو: هل تطبيق الشريعة في الإسلام منوط بالقدرة والإمكان، أم منوط باختيار الشعب؟
وصورة المسألة تتحقق في السؤال التالي: من حصلت له من ولاة الأمر القدرة والإمكان في تطبيق حكم شرعي فهل يلزمه استفتاء إرادة الشعب عليه، أم يلزمه تطبيقه مباشرة لأن الأصل هو وجوب الشرع؟
فأصحاب مذهب “سيادة الشريعة” يعتقدون وجوب تطبيق الحكم الشرعي إذا وجدت القدرة والإمكان، وهو الذي تنتفي فيه المفسدة الراجحة؛ وأصحاب مذهب “سيادة الشعب” يعتقدون أن الحكم الشرعي لا يطبق حتى يستفتى الشعب، مهما وجدت القدرة والإمكان، وإذا طبق ولي الأمر الحكم الشرعي دون استفتاء شعبي فقد ظلم واعتدى ولا يُشكر في مسعاه، بل يجب نقده لأنه ضد الحرية!
هذه هي صورة المسألة التي تمعرت لها قلوب المؤمنين، وفزعوا، وصاروا يكتبون فيها مجمعين على الاستنكار دون تواطؤ، إذ لأول مرة تتم الجرأة على وضع سيادة الشريعة مقابل سيادة الشعب، بل وتوضع صورة رمزية على شكل ميزان فيه انتصار كفة الحرية على كفة الشريعة، وهي ليست صورة عفوية التقطت من الشبكة، بل واضح أنها صورة مصممة على وقع هذا السجال.
فالمراد أن إناطة الشريعة بـ”القدرة والإمكان” هو قول فقهاء الإسلام قاطبة، وإناطة الشريعة بـ”صناديق الاقتراع” دون اضطرار هو قول من يقدسون الديمقراطية، الذي تسلل إلى عقول بعض أبناء المسلمين للأسف، بسبب ضغط عواصف الروح الليبرالية التي تكسرت أمامها مجاديف الإيمان في كثير من القلوب الضعيفة.
فأهل العلم الذين كتبوا في هذه المسألة -من السلف والخلف- يستنكرون إناطة الشريعة باختيار الشعب من حيث الأصل.
الخطأ الثالث: التحدث عن قاعدة “التدرج في تطبيق الشريعة” في سياق الاعتذار عمن يقرر أن سيادة الشعب مقدمة على سيادة الشريعة؛ ومن فعل ذلك فقد استعمل معنى صحيحاً في الاعتذار عمن يقرر معنى باطلاً، وهذا كمن يتحدث عن أهمية تنزيه الله في الاعتذار لمن يعطل الصفات، أو كمن يتحدث عن قاعدة الرجاء في الاعتذار لمن يقرر الإرجاء، أو كمن يتحدث عن قاعدة “أنتم أعلم بأمر دنياكم” في الاعتذار عمن يقرر العلمانية، أو من يتحدث عن قاعدة “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” في الاعتذار عمن يقرر الاشتراكية، ونحو ذلك.
الخطأ الرابع: سوء التفهم لمقالات أهل العلم الذين يذبون عن سيادة الشريعة، وحملها على غير محاملها، أو انتزاعها من سياقاتها لإفقادها مدلولاتها الصحيحة، في مقابل حسن التفهم لمقالات أهل الأهواء، والتعسف في وضع أفكارهم الباطلة تحت معنى شرعي صحيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- من رسالة “سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة” للدكتور سعد بن مطر العتيبي.
(2)- من مقال “الإلزام بالشرع وتحرير محل النزاع” للدكتور فهد العجلان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *