التعلق بالله ـ عز وجل ـ وقصده وإرادته هو أساس التوحيد ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله، والله ـ سبحانه وتعالى ـ هو المستحق وحده أن يكون المقصود والمدعو والمطلوب.
ومن لم يكن مـقـصوده وغايته الله -عز وجل-؛ فلا بد أن يكون له مقصود ومراد آخر يستعبده، كما وضّح ذلك ابن تيمية بقوله: (الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله؛ كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ـ تعالى ـ ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود.
فلا بد لكل عبد من مراد مـحبوب هو منتهى حبه وإرادته؛ فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك؛ فلا بد أن له مراداً محبوباً يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله) .
والناظر إلى واقعنا الحاضر يرى أنواعــــاً مــــن التعلــق بالشهوات والافتتان بها، فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من الـنـســـاء والأمـــــوال، والملبوسات والمركوبات، والمناصب والرياسات، والولع بالألعاب والملاهي.
ولـعــل مــن الـمـناسب أن نتحدث ابتداءً عن الموقف الصحيح تجاه الشهوات إجمالاً قبل الحديث عن بعض أفرادها تفصيلاً.
إن المسلك العدل إزاء الشهوات وسط بين مسلك أهل الفجور والفواحش، ومسلك أصحاب الرهبانية والتشدد؛ فأهل الفجور أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ وأهل الرهبانية حرّموا ما أحل الله من الطيبات. ودين الله -عز وجل- يراعي أحوال الناس، ويدرك ما هم عليه من الغرائز والشهوات؛ لذا فهو يبيحها ويعترف بها، لكنه يضبطها ويهذبها.
يقول ابن القيم -مقرراً هذه الوسطية-: (لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حياً -فإن هواه لازم له- كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مـراتع الهَلَكة إلى مواطن الأمن والسلامة؛ مثاله أن الله -سبحانه وتعالى- لم يأمره بصرف قلبه عــن هـــوى النساء جملة؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومــن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبوراً فاستحالت صباً…) .
واتباع الشهوات والانكباب عليها يؤول إلـى اسـتـيـلائـهـا على القلب، فيصير القلب عبداً وأسيراً لتلك الشهوات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصرّف ذلك المطلوب.
فـمــا يـمـثـلــه الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه؛ فـيـبـقـى مستغرقاً في تلك الصورة.. والقلب يغرق فيما يستولي عليه: إما من محبوب وإما من مـخــوف، كما يوجد من محبة المال والجاه والصور؛ والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقاً كما يغرق الغريق في الماء…) .
وقد قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: (من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا) .
وإذا كان الإفراط والانهـمــاك في الشهوات مذموماً شرعاً، كما قال -عز وجل-: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياً} [مريم: 59]؛ فكذلك اتباع الشهوات مذموم عقلاً؛ فإن العاقل البصير ينظر في عواقب الأمور، فلا يُؤْثِرُ العاجلة الفانية على الآخرة الباقية.
يقول ابن الجوزي -رحمــه الله-: (اعلم أن مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة، ويحث على نـيـل الـشـهـوات عـاجلاً، وإن كانت سبباً للألم والأذى في العاجل، ومنع لذّات في الآجل).
فـأما العاقل فإنه ينهى نفسه عن لذةٍ يعقبها ألم، وشهوة تُورث ندماً، وكفى بهذا القدر مدحاً للعقل وذماً للهوى.
وإذا عرف العاقل أن الهوى يصير غالباً، وجب عليه أن يرفع كل حادثة إلى حاكم العقل؛ فإنه سيشير عليه بالنظر في المصالح الآجلة، ويأمره عند وقوع الشبهة باستعمال الأحوط في كف الهوى، إلى أن يتيقن السلامة من الشر في العاقبة) .
وليعـلم العبد أن الصبر عن الشهوات -وما فيها من الإغراء والبريق والافتتان- أيسر من الصبر عـلـى عــواقب الشهوات وآلامها وحسراتها، كما بينه ابن القيم بقوله: (الصبر عن الشهوة أسهل مـن الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضـعـه، وإمـا أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريـقــاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنـســي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمت عدواً وتحزن ولياً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق) .
ومما يحسن ذكره هاهنا أن أعرابياً عشق امرأة، فطال به وبها الأمر، فلما التقيا وتمكن منها وصار بين شُعَبها، ذكر الدار الآخرة، فقال: والله إن امرءاً باع جنة عرضها السماوات والأرض بفتْر بين رجليك لقليل البصر بالمساحة . (العبودية مسائل وقواعد ومباحث؛ الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف؛ بتصرف).