الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ أَبِى مُوسَى الأشعري رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ. فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ ، فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي، فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ» متفق عليه.
تأملات في الدُّرة:
في هذه الدُّرة النبوية ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه مثلا برجل رأى جيشا يريد أن يُغير على قومه، فجاء نذيرا لهم، يحثهم على النجاة بأنفسهم، مشبها نفسه بالنذير العريان، قال العلماء: “أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب المخافة؛ نزع ثوبه، وأشار به إليهم، إذا كان بعيدا منهم؛ ليخبرهم بما دهمهم… وإنما يفعل ذلك؛ لأنه أبين للناظر، وأغرب، وأشنع منظرا، فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو” (شرح النووي 15/48).
فلما أنذر قومه انقسموا في شأن خبره إلى طائفتين مصدقة ومكذبة، فأما الذين صدقوه فأدلجوا -أي ساروا من أول الليل- على مهلهم، فنجوا بأنفسهم، وأما الذين كذبوه فبقوا في مكانهم حتى هاجمهم الجيش صباحا، فأهلكهم.
وتوضيح هذا المثل أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله الله نذيرا ومحذرا من عذاب الله، فمن صدقه فيما جاء به من الحق نجا من عذاب الله في الدنيا والآخرة، ومن كذبه فيما جاء به من الحق أهلكه الله.
وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة النبوية من الفوائد:
– استحباب ضرب الأمثال، لما لها من أثر في تقريب المعاني إلى الأفهام حتى تتجلى، وترسيخها في الأذهان حتى لا تنسى.
– أن الإنذار من عذاب الله من غايات الرسالة وأهدافها، كما قال تعالى: “رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً” (النساء165)، وقال مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: “إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً” (الفتح8).
– أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق فيما أنذر به، فمن كذبه لحقه ما أنذره، وقد كان المشركون يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُنذرهم، كما دل على ذلك حديث ابن عباس: قَالَ: “لَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) صَعِدَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي، «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِي». لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيّ» . قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا. قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذَابٍ شَدِيدٍ». فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ (تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) متفق عليه.
– وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به عن ربه عز وجل.
– وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من لوازم التصديق برسالته، ويدل على وجوب طاعته، وخطر معصيته، أمور كثيرة أذكر منها:
1. أن الله تعالى قرن الأمر بطاعته بطاعة نبيه فقال: “وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ” (المائدة92).
2. أن الله تعالى جعل طاعة رسوله من طاعته فقال: “مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً” (النساء80).
3. أن الله تعالى جعل طاعته شرطا في الإيمان، فقال: “فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً” (النساء65).
4. أن الله تعالى جعل طاعته سببا للفوز برحمة الله، فقال: “وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” (آل عمران132).
5. أن الله وعد من أطاعه بمصاحبة الأنبياء في الجنة: “وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً” (النساء69).
6. أن الله تعالى حذر من عصاه الفتنة والعذاب الأليم، فقال: “فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (النور63).
7. أن الله تعالى جعل الذلة والصغار على من عصاه، فقال: “إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ” (المجادلة20).
8. أن من عصاه يندم يوم القيامة، كما قال تعالى: “وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً” (الفرقان27).
9. أن من عصاه يتمنى يوم القيامة لو أنه أطاعه في الدنيا، كما قال تعالى: “يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ” (الأحزاب66).
10. أن الله تعالى توعد من عصاه بالخلود في النار والعذاب المهين: “وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ” (النساء14).
فهذه خمسة أمور في فضل طاعته، وخمسة في خطر معصيته، فتلك عشرة كاملة؛ فهل من معتبر؟!